رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفلسفة وثقافة التسامح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اكتسب مفهوم «التسامح» معانى عدة، وتجسد بصور متنوعة عبر اختلاف أشكال الوعى الإنساني؛ فلم يعد مقتصرًا على الجانب الطائفى والدينى بل امتد ليشمل الجانب السياسى والاجتماعى والثقافى.
إن «التسامح» ليس ضرورة لأزمة المجتمعات التى تعانى من نزاعات أو صراعات فحسب، بل إن وجوده ضرورة أساسية لكل المجتمعات حتى فى أوقات السلم عندما يكون المجتمع ذا مكونات مختلفة.
بدأت الدعوة إلى «التسامح» تأخذ بُعدها العالمى الرسمى منذ أن بدأت المواثيق الدولية تشير إليها فى نصوصها، فالأمم المتحدة أخذت فى تدعيم «التسامح» من خلال تعزيز التفاهم المتبادل بين الثقافات والشعوب. وتكمن هذه الضرورة فى جوهر ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وهى أكثر أهمية الآن- من أى وقت مضى- خاصَة فى هذه الحقبة التى شهدت زيادة التطرف العنيف واتساع هوة الصراعات التى تتميز بتجاهل أساسى للحياة البشرية. وفى عام 1996 دعت الجمعية العامة الدول الأعضاء إلى الاحتفال باليوم الدولى للتسامح فى 16 نوفمبر، من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور (القرار رقم 95/51، المؤرخ فى 12 ديسمبر). وجاء هذا الإجراء فى أعقاب إعلان الجمعية العامة فى عام 1993 بأن يكون عام 1995 هو عام الأمم المتحدة للتسامح (القرار رقم 126/48). وأعلنت هذا العام بناء على مبادرة من المؤتمر العام لليونسكو فى 16 نوفمبر 1995، حيث اعتمدت الدول الأعضاء إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح. وقد أطلقت الأمم المتحدة حملة (معًا) لتعزيز التسامح والاحترام والكرامة فى جميع أنحاء العالم. ومعًا هى الحملة العالمية التى تهدف للحد من المواقف السلبية تجاه اللاجئين والمهاجرين بغرض تعزيز التكافل الاجتماعى بين المجتمعات المضيفة.
وجاء فى الميثاق ما يلي: «نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التى جلبت على الإنسانية أحزانًا يعجز عنها الوصف. وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية. وأن نبين الأحوال التى يمكن فى ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي. وأن ندفع بالرقى الاجتماعى قُدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة فى جو من الحرية أوسع. وفى سبيل هذه الغايات اعتزمنا أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معًا فى سلام وحسن حوار، وأن نضم قوانا كى نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تُستخدم القوة المسلحة فى غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الأداة الدولية فى ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب جميعًا».
وبما أن الحاجة تدعو اليوم- كما فى فترات عدة من التاريخ البشرى- إلى بعث الحياة فى القيم الإنسانية السامية خاصة مفهوم «التسامح»، فقد يكون من المناسب أن نبين علاقة الفلسفة بهذا المفهوم، على أساس أن الفلسفة من أكثر الميادين المعرفية التى عملت على ترسيخ مفهوم «التسامح» فى العقل الإنساني. والجدير بالذكر أن تاريخ الفلسفة يدلنا على أن «التسامح» كان دائمًا مقومًا أساسيًا من مقومات التفلسف، أعنى «البحث عن الحقيقة»؛ واعتماد الشك فى التفكير الفلسفى والأخذ بمبدأ نسبية الحقيقة، والاعتراف بالاختلاف، وبمشروعية الخلاف هو التسامح بعينه.
ويزخر تاريخ الفلسفة بمساهمات مفكرين أمثال: «اسبينوزا» و«جون لوك» و«فولتير» فى إغناء مفهوم «التسامح» وتوسيع حقول استعماله، فنجد «اسبينوزا» يقول- فى الفصل الأخير من رسالته فى اللاهوت والسياسة: «إن أسوأ موقف تُوضع فيه الدولة هو ذلك الذى تبعث فيه إلى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا أنهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها». وكتب «روسو» فى «العقد الاجتماعي»: «يخطئ فى نظرى أولئك الذين يفصلون بين اللا تسامح المدنى واللا تسامح اللاهوتي، فهذان النوعان لا انفصام بينهما. ونشر «جون لوك» كتابه «رسالة فى التسامح» دون توقيع اسمه خوفًا مما قد يتعرض له من ردود فعل غاضبة قد تهدد حياته، لأنه دعا- فى هذا الكتاب- إلى القضاء على بنية التفكير الأحادى المطلق، وروح التعصب الدينى المغلق، وإقامة الدين على العقل، وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم «التسامح» تعتمد على مبدأ فصل المهام بين دور الدولة ودور الكنيسة، ومبدأ المساواة فى الحقوق بين جميع الطوائف الدينية. يقول: «يجب أن تتخذ الكنائس من التسامح أساسًا لحريتها، وأن تعلم أن حرية الضمير حق طبيعى لكل إنسان، وأن لا إكراه فى الدين سواء بالقانون أو بالقوة. أما «فولتير» فالتسامح عنده هو النتيجة الحتمية لإدراكنا أننا لسنا معصومين من الخطأ. يقول: «البشر خطاءون، نحن نخطئ طول الوقت. دعونا نسامح بعضنا بعضًا، دعونا نغفر لبعضنا الحماقات وهذا هو المبدأ الأول للحق الطبيعي».
إن البحث عن الحقيقة أو الاقتراب منها أو اللاعصمة من الخطأ- كما يرى كارل بوبر- كلها تقود إلى موقف نقد ذاتى وإلى التسامح. فالمبدأ القائل: «علينا أن نتعلم من الأخطاء إذا كان لنا أن نتعلم تجنب الوقوع فى الأخطاء»، يعنى أن إخفاء الأخطاء إذن هو الخطيئة الفكرية الكبرى. ولما كان علينا أن نتعلم من أخطائنا، فلا بد أن نتعلم أيضًا أن نقبل- شاكرين- أن يوجه الآخرون انتباهنا إلى أخطائنا. وعندما نقوم نحن بدورنا بتوجيه انتباه الآخرين إلى أخطائهم، فعلينا دائمًا أن نتذكر أننا قد وقعنا نحن أنفسنا فى أخطاء. إننا نحتاج إلى الآخرين لاكتشاف أخطائنا وتصحيحها، وهم يحتاجون إلينا أيضًا وهذا بدوره يؤدى إلى التسامح. إن النقد الذاتى هو أفضل النقد، لكن النقد من الآخرين ضروري، بل يكاد أن يكون له أهمية النقد الذاتى نفسه.