الفلسفة فى حاجة أن تخرج، من آن لآخر، من النطاق «الاحترافى» الذى ضربته حول نفسها، وتحدد علاقتها ببقية مجالات العالَم. وهى على الأخص فى حاجة إلى أن تنظر بفهم وتقدير، لا بازدراء وترفع، إلى وجهة نظر رجل الشارع «الإنسان العادى»، وينبغى أن تجد فى نفسها الشجاعة للربط بين آرائها وبين هذا «الإنسان»، وإلا فستظل إلى الأبد «مهنة» ضيقة لا تلقى استجابة إلا من ذلك العدد القليل الذى احترفها.
(د. فؤاد زكريا، نظرية المعرفة والموقف الطبيعى للإنسان، ص ٥)، وكما يقول الدكتور زكى نجيب محمود إن «تسعة قرَّاء من بين عشرة، لم يسمعوا من الفلسفة إلا اسمها، دون أن يعرفوا من مضمونها كثيرًا أو قليلًا، وبالتالى فهم لا يعرفون شيئًا عما يؤديه الفكر الفلسفى فى حياة الناس!!». (د. زكى نجيب محمود، هموم المثقفين، ص ١٦٩).
والسؤال الآن: ما الذى يميز التفكير الفلسفى عن الأنواع الأخرى للتفكير؟ وما الذى يفعله الفيلسوف ويختلف فيه عما يفعله العالِم أو رجل الدين، وربما الفنان ذاته؟ وما هى أوجه نشاطه العقلى الفريدة والمميزة له؟
إن الفلسفة فى بلادنا سيئة السمعة. وهذا أمر ليس بمستغرب فى مجتمعات تتخذ موقفًا عدائيًا من العقل، وتطمئن أقصى غايات الطمأنينة للخرافات. وتحليل هذه البنية العقلية السائدة فى مجتمعنا ومعرفة عللها وطرق إصلاحها هو ما نحرص على القيام به.
إن كل مهنة تفرض على من يحترفها مجموعة من المفاهيم والمصطلحات والأدوات التى يستخدمها صاحب هذه المهنة فتميزه عن غيره ممن يحترفون مهنًا أخرى، وتبدو هذه المفاهيم والمصطلحات والأدوات غريبة خارجة عن المألوف فى نظر غيره. «النجار» مثلًا يستخدم أدوات ويسميها بأسماء معينة لا يفهمها إلا أقرانه من النجارين، مثل «الأزميل» و«الفارة» و«السرَّاق»... إلخ.
وكذلك «ميكانيكى السيارات» هو أيضًا يستخدم أدوات تساعده فى إنجاز ما يقوم به من عمل، ويطلق عليها أسماء معينة يفهمها فقط أصحاب هذه المهنة، مثل «المفتاح البلدى» و«المفتاح المشرشر» و«مفتاح البوجيهات» و«الزرجينة» و«زرجينة الصبابات» و«طقم اللقم».. إلخ.
«الفلسفة» ليست استثناءً لهذه القاعدة.
فالأمر الذى لا شك فيه أن الباحث المتخصص فى الفلسفة هو اليوم صاحب مهنة لها مصطلحاتها ومفاهيمها ومناهجها، ووفقًا لهذه المصطلحات والمفاهيم والمناهج يقول الفلاسفة بآراء، ويتخذون مواقف، هى فى نظرهم من الأمور العادية المألوفة، مع أنها فى نظر غيرهم غريبة ولا تكاد تُصَدَّق.
هذا إذن هو الموقف السائد فيما يتعلق بالصلة بين الفلاسفة ورجل الشارع، فالفلاسفة أصبح لهم مجالهم الخاص الذى يترفعون فيه عن وجهة نظر «العامة»، ويعدون رفض وجهة نظر رجل الشارع هو جواز المرور إلى عالم الفلسفة، على الجانب الآخر يستغرب الرجل العادى ويدهش للآراء النظرية الميتافيزيقية لدى الفلاسفة، ولا يأخذ بهذه الآراء فى حياته اليومية.
المهم أننا الآن بصدد محاولة تقديم تعريف للفلسفة، والأفضل أن نبدأ من البداية، أى نبدأ من الأصل اللغوى للكلمة. إن الفلسفة كلمة يونانية قديمة مركبة من مقطعين «فيلو» fileo ومعناه «محبة» أو «سعى إلى» I love، I strive و«سوفيا» Sophia ومعناه «حكمة» أو «معرفة» wisdom، knowledge. ومن ثمَّ فإن الفلسفة وفقًا لمعناها الاشتقاقى هى: «محبة الحكمة» أو «السعى إلى المعرفة».
غير أن تعريف الفلسفة بأنها محبة الحكمة، لا يشفى غليلنا فى الوقوف على معنى الفلسفة وفى تقريبها إلى الأذهان. إذ إن الذى لا يعرف معنى الفلسفة لن يزداد معرفة بموضوعها إذا قيل له إن الفلسفة فى تعريفها تعنى «محبة الحكمة».
وسيجد نفسه مسوقًا مرة أخرى إلى أن يسأل ما هى الحكمة التى تُعرَّف بها الفلسفة؟ وما المقصود بها؟ وسيشعر قبل هذا وذاك أن تعريف الفلسفة بالحكمة أو بمحبتها لم يقرِّب الفلسفة من حياته.
وإذا نظرنا إلى المعنى الاصطلاحى للفلسفة، فسنجد أنه - وكما سبق أن ذكرنا - يختلف باختلاف المذاهب والعصور.
فقد حصر «سقراط» مثلًا مهمة الفلسفة فى دراسة الحياة الأخلاقية، وذهب إلى أن الحياة التى لا يتم فحصها غير جديرة بأن يحياها الإنسان، كما ذهب «شيشرون» إلى أن الفلسفة هى المدبرة لحياة الإنسان بما تقدمه له من قواعد السلوك وتعريفه معانى الحق والواجب، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وما ينبغى أن يتحلى به أو يتخلى عنه بحيث يسلك مع أقرانه من البشر المسلك الذى يلائم قواعد الخلق القويم والسلوك المستقيم.
غير أن هذا المعنى الضيق الذى يحصر الفلسفة فى نطاق الأخلاق، اتسع عند أفلاطون وأرسطو بحيث أصبحت الفلسفة دراسة للكون وكل مناحى الحياة الإنسانية، ومحاولة للوصول إلى الحقيقة فى كل مجال من هذه المجالات، بغض النظر عن المنافع العملية المترتبة على معرفة الحقيقة.
ثم اهتمت الفلسفة فى العصور الوسطى بالبرهنة على صحة القضايا الدينية، كوجود الله، وخلود النفس.. إلخ، كما حاولت التوفيق بين العقل والنقل أو الحكمة والشريعة.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ظهرت نزعة عملية واضحة فى الفلسفة المعاصرة - وبخاصةٍ فى الفكر الفلسفى الأمريكى - وهى التى سميت باسم المذهب العملى أو «البراجماتية» Pragmatism التى رأى أحد أعلامها - «وليم جيمس» (١٨٤٢ - ١٩١٠) - أن هدف الفلسفة هو تحقيق منفعة عملية، أى أنها ليست بحثًا فى مشكلات نظرية وقضايا تأملية، بل هى التفكير على نحو يحقق للإنسان النجاح فى حياته العملية.
وكذلك ذهب «كارل ماركس» Karl Marx (١٨١٨ - ١٨٨٣) إلى القول بأن الفلاسفة قد دأبوا على تفسير العالَم بطرق شتى، ولكن مهمة الفلسفة - فى اعتقاده - هى العمل على تغيير العالَم، وتعديل النظم القائمة، وتخليص الإنسان من الظلم وطغيان الخرافات.
كما ظهرت إلى جانب البراجماتية والماركسية مذاهب فلسفية أخرى كثيرة، كالفلسفة التحليلية، والوضعية المنطقية، والوجودية وفلسفة الظاهريات.. إلخ.
وكانت جميعها تسعى إلى تعريف الفلسفة تعريفًا خاصًا.