الشيطان يكمن فى التفاصيل، وبعض تفاصيلنا لا تزال بعيدة عن المسار العام للدولة من حيث توجهها للتحديث والبناء بسن التشريعات والقوانين لتكون قاعدة تضبط العلاقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع، وبتشييد المشروعات القومية الكبرى، فى ظل نظام اقتصادى جديد.
الشيطان القابع فى تلك التفاصيل كفيل بهدم كل إنجاز، بل وتقويض قدرة الدولة على الفعل، وظنى أن أهم تلك التفاصيل «التوك توك» الذى ابتلع آلاف الشباب وأهدر مهاراتهم وقتل طموحهم وانحدر بأخلاقهم.
ويلى «التوك توك» طبقة البيروقراطية المصرية وقوامها نحو ٦.٥ مليون موظف التى أضرت بالمجتمع أيما ضرر بقيمها الفاسدة وإشاعتها ثقافة الاتكالية والفهلوة والمحسوبية ناهيك عن قيم الرشوة وما حولها.
فى ظنى تمثل هذه التفاصيل ملفات ساخنة ينبغى على الرئيس الالتفات إليها، فـ«التوك توك» علاوة على مظهره غير الحضارى وفر لآلاف الشباب وسيلة سهلة للكسب السريع دون بذل أى عناء من أجل تعلم مهارة جديدة، وهذه الحالة كفيلة بهدم قيم مثل التعلم والعمل والجدية، وقد تسببت فعليا فى انهيار أخلاقى نشاهد مظاهره لدى أغلب سائقى «التوك توك» بدءا من تعاطى المخدرات علنا وصولا إلى عدم احترام الطريق.
إلى ذلك تسبب «التوك توك» فى حرمان معظم الحرف اليدوية من عمالة محلية ماهرة، ولم تعد حرف مثل: السباكة والنجارة وأعمال الكهرباء، تجد صبيانا يتعلمونها على يد «أسطوات» الصنعة، وخلت ورش الميكانيكا ومحلات الترزية ومصانع الملابس من الشباب الشغيلة، حتى إن بعض تلك مصانع لجأ إلى استيراد عمالة أجنبية من بنجلاديش وبلغاريا. للأسف ربما أصبح من الصعب المطالبة بإلغاء «التوك توك»، ولكن نطالب على الأقل بتحجيمه بتحديد أعداد بعينها تعمل فى كل منطقة بحسب احتياجاتها الفعلية، ويتم تشجيع الباقين على تسليم عربات «التوك توك» للأحياء وتعويضهم ماديا بشكل معقول، مقابل توفير فرص تدريب وتأهيل مهنى لهم داخل بعض المصانع والورش، أو حتى بالمشروعات القومية التى تقوم بها الدولة على أن يتم إلحاقهم بالعمل فى تلك المصانع أو المشروعات. وفى الوقت ذاته، ينبغى تجريم قيادة الأطفال والمراهقين لـ«التوك توك»، ويشترط لتشغيله الحصول على رخصة مهنية على أن يتم معاقبة ولى أمر الطفل إذا ضبط أثناء قيادته لـ«التوك توك» بمصادرة العربة وحبس ولى الأمر.
يترافق مع ذلك تشجيع أصحاب الحرف والمهن المختلفة على إنشاء روابط ونقابات تدافع عن مصالحها وتنظم العلاقة بين أصحاب الورش والعمال.
أظن أننا بحاجة لمبادرة رئاسية من هذا النوع وأقول رئاسية؛ لأنها ستكون الأكثر تنظيما وصرامة ومرونة فى التعامل مع هذه القضية، فما تقوم به الدولة من مشروعات كبرى، علاوة على حجم الاستثمارات المتوقع فى الفترة المقبلة سيحتاج إلى عمالة محلية مدربة وليس من المقبول أن نضطر لاستيراد عمالة من الخارج، بينما أحياءنا الشعبية مكتظة بآلاف الشباب الذين دهست أحلامهم وأخلاقهم تحت عجلات «التوك توك».
فى السياق ذاته، تأتى أهمية النظر إلى ملف البيروقراطية المصرية التى تعوم على بركة أسنة من انحلال القيم وفساد الأخلاق وانعدام الضمير، فلا يزال المواطن يشكو «درج» الموظف المفتوح دائما لاستقبال الهدايا والرشاوى، ولا أمل فى إصلاح الفاسد منهم ولو خطب فيه كل أئمة الأمة، إذ لا سبيل سوى تطبيق حازم وصارم لقانون الخدمة المدنية مع الالتزام بمعايير الشفافية والنزاهة كافة، وبرقابة من هيئة الرقابة الإدارية، إذ ليس من المنتظر أن يقوم موظف بتطبيق القانون على نفسه مهما كان موقع هذا الموظف وزير أو غفير.
تطهير البيروقراطية المصرية أولوية لضمان إنجاز المشروعات بعيدا عن ممرات ودهاليز الفساد إياها ولا يجب أن نثق فى الموظف؛ لأنه يمتلك من المهارات التى تمكنه من إبداع أحدث الأساليب للتحايل على القوانين والتشريعات.
جانب كبير من شعور المواطن بالثقة فى الدولة أو عدمها يتولد أثناء تعامله مع الموظف الحكومى، سواء أكان هذا المواطن يطلب استخراج رخصة قيادة أو إنهاء أوراق معاشه، أو استصدار تصريح لبناء مصنع. ولد الفساد فى مجتمعنا من رحم هذه الطبقة واستفاد منه الانتهازيون من رجال الأعمال، لذلك فإن تطهيرها يعنى القضاء على أهم منابع الفساد التى عرفتها مصر طوال العقود الماضية.