حدّثَ أبى قال: حين دخلتُ ورفيقاى بيت «فيليب مارسيه» كنا على موعد معه وقد استقبلتنا زوجته، التى ساعة نزلت الواحة (براك - جنوب ليبيا) احتجبت بالبيت طويلًا خجلًا أو ربما خوفًا مما لا تعرفه، لأنها كانت تخرج فى أحيان رفقة زوجها المستشرق الفرنسى فيليب من نزل بواحة براك/القصر مع أواخر أربعينيات القرن الماضى وعقب سنوات من تمركز الاستعمار الفرنسى بمجمل واحات الجنوب، لاحقًا حكى لنا مارسيه أنهُ لأجل تشجيع زوجته لتنطلق بأريحية، أطلعها على ما شاهده من نساء الواحة، فهن خارج بيوتهن أغلب الوقت يتجولن بين غابة النخيل وحظائر شياههن ودجاجتهن، تلك الحظائر التى بعضها مُلحق بالبيوت وبعضها على مسافة، كما زادها من القصيد بيتا لأمان أكثر تشعر به، عن أن البيوت البسيطة البناء لا تعرف قفلًا! والأغلب يُفضل الجلوس أو التحدث وقوفا عند عتباتها خاصة أثناء الليل إذ يُتيح ضوء القمر إضاءة تكاد تنعدم أو تبدو طفيفة محدودة بكل نواحى وأركان البيوت التى سقفها ألواح نخيل ويجرى تعليق الفنارات ذات الفتيل على جوانب الحيطان الطينية بها.. أما المناسبات الاجتماعية فيتشاركها الرجال والنساء بمختلف الأعمار، وحدثها عن إعجابه بتمازج أصواتهن وأصواتهم، التى تشدو غناء شعبيًا وبصوت واحد، وكأنها كورس فرقة من فرق عرفوها فى بلادهم!
كنا نحظى بترحيب ومعاملة كريمة من فيليب وزوجته الطيبة، فى بيتهما دفء لافت لا تعليل له، ربما هندسة مفارقة تميز به بيتهما، فمدخلهُ قبل ولوج صالة البيت الصغيرة أحواض متفرقة لأعشاب هى نباتات زينة، كما فرشُ البيت جميل إذ يعكس ذائقة مختلفة عنا حتى وهى تستعمل حصائرنا وتخيط (سلتات) من بقايا أقمشة، على الحوائط أطباق من السعف وبعض من حلى مجتمعه بشكل لونى جمالى (خناقات) مُعلقة برخاوة وانسيابية، وفيما كان بعض السواد يغالب مكان طبخنا من أثر الحطب والفحم، كانت هى تستعمل ما يشبه (بابور الجاز) ما يحجز الأثر بل يمسحهُ نهائيًا!
حين جالستنا بانتظار مجيء فيليب ذات مرة وقدمت لنا شايا، لاحظتُ خجلًا واحتشامًا باديًا عليها إذا تحاول تكرار مفردات ترحيب بلهجتنا، فقليلة هى الكلمات التى حفظتها على العكس من مارسييه، أشعرتنا بثقتها بنفسها، وأنها تحترم وتقدر ما نقدمه لفيليب من عمل يتطلب تسجيلًا إنتربولوجيًا لمستعملات الواحة وللمهن والوظائف التى يعمل بها أهلها كما أقوالهم المأثورة وسردياتهم، كنا نكتب كل ذلك على ورق مقوى مُقطع بشكل مستطيل، أنا ورفيقاى ثلاثتنا كنا نتمتع بخط وأملاء جيدين، ذات مرة طلب فيليب أن نحكى ونسجل له الأمراض وعلاجاتها، وأخرى سجلنا له يوميات وتقاليد أفراحنا ومناسباتنا الدينية والاجتماعية وما نهتم بممارسته من طقوس، ما سجلناه له تتسع دائرته إلى الأطعمة، والملابس زى الرجال، والنساء والأطفال.. فيليب الفرنسى فى جولاته شارك أطفال الواحة أحدى ألعابهم تُسمى (تِش تشـا)، وهى عبارة عن جدول يرسم على التراب مكون من تسعة مربعات، ويُمسك كل لاعب ثلاث نوايات ويرتبها فى تلك المربعات كيفما اتفق، لكنه ما إن يتناوب ورفيقه الآخر تحريك النوى، عليه ليفوز أن يعمل على جعل النوايات الثلاث متقابلة أو متوازية لبعضها البعض وليست بعيدة مبعثرة، كما أول موضعها. كنا وثقنا لفليب كل ألعاب الأطفال.
حدث أبى فقال: إن التراث الشفاهى يذهب مع الريح حينما لا نكون مثلما فيليب، وقد تمنى الكاتب الليبى صادق النيهوم أن يركب حمارًا ويجول فى الواحات والقرى يلتقط من أفواه العجائز ما تبقى من حكايا وخرافات وأساطير، لكنه مات قبل أن يتمكن من ذلك، فهل ترك وريثًا لهذه المهمة التى لن تكتمل؟