منذ أيام قليلة رحل عن عالمنا شيخ اليساريين السكندرى الدكتور حمزة البسيونى، دون تنفيذ وعده، أن يعيش مائة عام قبل الرحيل، ولأنى قررت ألا أصبح صحفى وفيات، فإنى أترك المساحة المخصصة لى للزميلة جاكلين منير فى حوارها معه قبل ثلاث سنوات فى صحيفة «اليوم السابع».
وإليكم ما قاله شيخنا:
أنا دكتور حمزة محمد البسيونى، طبيب بشرى، تخرجت عام ١٩٥٣، وأبلغ من العمر ٩٠ عاما وشهر واحد، نشأت فى قرية «نوسة الغيط» مركز أجا بالدقهلية، وهى بلدة اشتهرت بالعمل السياسى، وكان معظم أهلها «وفديين»، وكان لدى الخلفية السياسية التى نشأت عليها، وجعلتنى أشارك فى كل المظاهرات تقريبا بعد التحاقى بكلية الطب جامعة الإسكندرية، والتى كانت تطالب بإجلاء الاحتلال الإنجليزى من مصر، حيث كنت أنتمى لتيار اليسار وكان انتمائى لليسار السبب فى اعتقالى لسنوات مجموعها ١٠ سنوات من عهد الملك فاروق مرورا بجمال عبدالناصر، وأخيرا عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
واقعة ٤ مارس ١٩٤٦ بميدان سعد زغلول بالإسكندرية، والتى يجب أن تكون العيد القومى لمحافظة الإسكندرية، حيث خرجت مظاهرات عمالية حاشدة بزعامة اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، فى اتجاه الميدان احتجاجا على مقتل مصريين بميدان التحرير، الذى كان يطلق عليه ميدان الإسماعيلية فى ذلك الوقت، وقد خرجت مظاهرات غاضبة من أهالى الإسكندرية، ودارات معركة شرسة بين الأهالى وبين مجموعة من الجنود الإنجليز كانوا محتجزين داخل «كشك» خرسانى خلف تمثال سعد زغلول، وظلت الاشتباكات قائمة بين الجنود المسلحين والأهالى العزل، وحاولت اقتحام «الكشك» من الشباك المقابل لمبنى الغرفة التجارية، إلا أننا فوجئنا بأحد الجنود يفتح الباب وكان الكشك مظلما من الداخل وفوجئنا بوابل من الرصاص يطلق من داخله، وقتل العشرات فى ذلك اليوم، وألحق تمثال سعد زغلول ضرر بالغ فى الخلف من جراء إطلاق الرصاص، إلى أن تمكن الشباب من إلقاء الكراسى والملابس المشتعلة داخل «كشك» الإنجليز، وتمكنا من قتل ٢ من جنود الإنجليز من الأربعة الذين كانوا محتجزين داخل الكشك الخرسانى، وفى اليوم التالى خلال توجهى إلى كلية الطب توجهت إلى المشرحة وروعنى مشهد المصريين المقتولين على يد الاحتلال الإنجليزى وكانوا من مختلف أطياف الشعب ومختلف الكيانات السياسية فى ذلك الوقت.
انضممت إلى أول تنظيم سرى لمحاربة الاحتلال الإنجليزى وكان يسمى «الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى» المعروفة سياسيا بـ«حدتو»، وكانت حركة تعمل على محاربة الاحتلال الإنجليزى ولكن بأهداف اشتراكية لتحقيق العدل الاجتماعى، وليس إجلاء الاحتلال فقط.
تم اعتقالى أكثر من مرة وكنت خلال فترات محبسى قد التقيت بكوكبة من مثقفى مصر من ضمنهم كمال عبدالحليم مؤلف أغنية «دع سمائى فسمائى محرقة»، والتى تغنت بها الفنانة فايدة كامل عام ١٩٥٦.
أما لقائى بالكاتب الكبير يوسف إدريس، فكان فى معتقل أبوزعبل، عام ١٩٥٤، وتم وضعنا فى زنزانة واحدة بما يخالف قوانين السجن، بعد ترحيلنا على سجن مصر عقابا لنا على تحريض المعتقلين، للمطالبة بخدمات طبية ضد الإدارة الطبية بالسجن، وأضربنا عن الطعام معا فى عنبر التأديب وتبادلنا الأحاديث الطويلة ونشأت علاقة صداقة بيننا، استمع فيها إلى قصة نضالى السياسى التى كتبها فيما بعد كقصة قصيرة بعنوان «قصة حب».
عندما خرج يوسف إدريس من المعتقل كتب مجموعة قصصية باسم «جمهورية فرحات»، وكانت قصتى ضمن المجموعة القصصية بعنوان «قصة حب»، وقد كتب مقدمة المجموعة القصصية عميد الأدب العربى طه حسين، والتقط المخرج الكبير صلاح أبوسيف القصة وتحولت إلى فيلم سينمائى، وغير الاسم إلى «لا وقت للحب».
وعندما عرض الفيلم على الفنان رشدى أباظة للقيام ببطولته، اعترض على اسم حمزة وقال: «جان السينما المصرية يطلع اسمه حمزة» إلا أن المخرج أصر على الاسم، وقامت الفنانة فاتن حمامة بأداء دور زوجتى بإتقان.
كان «إدريس» ينصت بتركيز شديد لما أسرده من تفاصيل لدرجة إنى كنت أخاف من نظرة عينيه وهو ينصت لى بتركيز شديد، وعندما كتب القصة كتبها كما سردتها له، ما عدا فروق بسيطة، حيث ذكر يوسف إدريس فى القصة أحداث حريق القاهرة، ولكنها كانت موقعة نضالية يوم ٤ مارس بميدان سعد زغلول، وخلال المعركة، كتب يوسف إدريس أن المتظاهرين نظروا إلى طائرات فى السماء، ولكنهم فى الحقيقة نظروا إلى الفنان الراحل أنور وجدى الذى كان يطل على الميدان فى شرفة أحد الفنادق منزعجا، وقت اشتعال النيران والمعركة مع الاحتلال الإنجليزى، وأظن أن يوسف إدريس رفض ذكر الفنان أنور وجدى حرصا على مشاعره.
أما شخصية صديق حمزة التى جسدها الفنان صلاح جاهين، فهى شخصية مختلقة من يوسف إدريس للحبكة الدرامية ولا توجد فى الواقع.
لم أشارك فى صناعة الفيلم فمنذ أن كتب يوسف إدريس قصتى وأصبحت ملكا له وحده، والتقطتها السينما المصرية ضمن مجموعة أعمال قصصية ليوسف إدريس لتحويلها إلى أفلام درامية، ولم يتسن لى مقابلة المخرج لإبداء بعض الملاحظات، كما لم أتقابل مع أبطال الفيلم.
والفيلم أضاع فرصة كبيرة للمخرج القدير صلاح أبوسيف فى التركيز على واقعة ٤ مارس، وليس قصة الحب، كما أنى كنت أعمل طبيبا بشريا وزوجتى طبيبة فى علم الكيمياء، وليس مهندسا كما ذكر الفيلم.
أنا شخصيا لا أستطيع قراءة قصة باقتناع سوى قصص يوسف إدريس، وكان كاتبا متقنا لعمله، وفى رأيى يوسف إدريس يستحق جائزة نوبل أكثر من نجيب محفوظ، ولكن لم يقع الاختيار عليه بسبب مواقفه السياسية، وأتذكر واقعة طريفة عندما كنا فى زنزانة واحدة، حيث قمت بإعداد حفلة له بمناسبة عيد ميلاده وقمت بانتزاع خيوط بطانية داخل الزنزانة لأصنع له هدية بهذه المناسبة وكان سعيدا بها جدا.
بالرغم من اعتقالى فى عهد عبدالناصر لمدة ٥ سنوات متواصلة فى الواحات إلا أنى ما زلت أحبه، لأنه رجل صاحب قضية عدالة اجتماعية وتلك القضية من أهم مبادئ العمل اليسارى، وأهم الشعارات التى كنا ننادى بها، وقد حقق عبدالناصر الكثير من المطالب التى كنا ننادى بها فى ذلك الوقت، خاصة فيما يتعلق بتوزيع الأراضى على الفلاحين وإنشاء المصانع وتحرير التعليم من سيطرة الرأسمالية، وأصبحت الكفاءة عنصر الاختيار من خلال مكتب التنسيق، وهى فى جوهرها تطبيق لمبادئ الاشتراكية التى كنا نسعى إليها.
لا أحد يستطيع اعتزال السياسة، وما زلت عضوا فى حزب التجمع وعضو اللجنة المركزية للحزب، حيث تطورت الحركة اليسارية فى مصر إلى حزب التجمع.
وداعا شيخنا دكتور حمزة البسيونى.