الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الفلسفة.. ورجل الشارع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ أقدم العصور كان رجل الشارع يتخذ موقفًا عجيبًا، وغير متسق، من الفلسفة بوجه عام، فهو من جهة يميل إلى التعامل مع الفلاسفة بتسامح مشوب بالرقة والعطف، بوصفهم حمقى لا ضرر منهم، وأناسًا ذوى أطوار غريبة، يسيرون وقد ارتفعت رؤوسهم فى السحاب، ويطرحون أسئلة سخيفة لا صلة لـها بالـهموم الحقيقية للناس، ولا يكترثون بالأمور التى ينبغى أن يهتم بها المواطنون العقلاء، غير أن التفكير الفلسفى يمكن أن يكون لـه، من جهة، تأثير يزعزع بعمق كل ما هو سائد من أعراف وتقاليد، وفى هذه الحالة يُنْظَر إلى الفيلسوف بعين الشك على أنه شخص خارج عن العرف المألوف، يعكر صفو التقاليد والأعراف، ولا يبدى موافقة غير مشروطة على العادات والآراء التى تبدو صالحة فى نظر سواه من الناس. 
ذلك لأن أولئك الذين لم يعتادوا النقد يشعرون بانعدام الأمان عندما يناقش أحد معتقداتهم التى يعتزون بها، ويكون رد فعلـهم مصحوبًا بالكراهية والعداء.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا لا نكاد نعرف فرعًا من فروع المعرفة قد أصابه ما أصاب الفلسفة من عداء وتندر واستنكار عند الكثرة الغالبة من الناس. 
إن الجهل بمعنى الفلسفة جعل هذا اللفظ يرتبط فى أذهان جمهور العامة بمفاهيم هى أبعد ما تكون عن الروح الحقة للفلسفة، فلقد وقر فى ذهن عامة الناس أن ما هو فلسفة ليس سوى خليط من حجج غامضة يكتنفها ضباب دون أن يكون لـها معنى مفهوم. فالفيلسوف فى نظر رجل الشارع هو شخص سفسطائى ثرثار، أو ملازم لبرجه العاجى بعيدًا عن الواقع العملى الملموس. 
وإذا أحسن به الظن فهو متخصص فى المجرد والعام، أو بالأحرى مصاب بالتجريد والتعميم، باحث عن الكل والوحدة والمعنى حيث لا ظل لـها ولا أثر، متجه ببصره وبصيرته إلى «ما فوق» و«ما وراء» وما فى الباطن والأعماق حيث لا توجد إلا المدرَكات الظاهرة، والأشياء الكثيرة، والموجودات الحسية المتعددة.
وإذا ما تساءلنا الآن: ما الفلسفة؟ فماذا ستكون الإجابة؟
إذا كان من اليسير طرح مثل هذا السؤال، فإنه من العسير الإجابة عنه، لأن معنى الفلسفة قد اختلف باختلاف العصور، بل إننا داخل العصر الواحد نجد معانى عديدة لهذه الكلمة. 
وتتعدد معانى الفلسفة وفقًا لعدد المذاهب والاتجاهات الفلسفية، ومن ثمَّ لا يوجد تعريف واحد بعينه يرضى عنه كل الفلاسفة. 
وبعبارة موجزة يمكننا القول: إن إحدى الصعوبات الهامة فى تعريف لفظ «فلسفة» إنما تكمن فى أنه لا توجد فلسفة «واحدة»، وإنما هناك «فلسفات»، ولا توجد مدرسة فلسفية واحدة، بل هناك مدارس واتجاهات فلسفية متعددة. 
قد تكون هذه البداية محبطة للقارئ، إذ إنه بمجرد أن وقعت عيناه على هذا السؤال، قد منَّى نفسه بأنه سوف يهتدى إلى إجابة شافية عن السؤال القائل: «ما الفلسفة ؟». 
غير أننا نريد التأكيد على أن الأمر ليس بهذا السوء، فنحن قد قلنا إنه من «العسير» الإجابة عن السؤال القائل «ما الفلسفة؟»، ولم نقل إنه من «المستحيل» الإجابة عنه.
 هناك صعوبة إذن فى الإجابة، وتتمثل هذه الصعوبة فى أن المعرفة الكاملة بالفلسفة إنما تقتضى الإحاطة الشاملة بتاريخها الممتد منذ «طاليس» - أول من طرح سؤالًا عن أصل الوجود - وحتى اليوم، فضلًا عن الإلمام بالمشكلات الفلسفية التى أثيرت عبر هذا التاريخ الطويل. 
بالإضافة إلى كل هذا لا بد من التمييز الدقيق بين الفلسفة وبين غيرها من المباحث الإنسانية الأخرى كالعلم والدين مثلًا. ومن الواضح أن تحقيق ذلك يحتاج إلى قدر من التريّث والصبر، أما الإجابة السريعة المقتضبة، فإن ضررها أكبر من نفعها. 
إن الفلسفة أشبه بمدينة عريقة مترامية الأطراف لا يكفى لمعرفتها إلقاء نظرة عابرة من الخارج، وإنما لا بد من دخولها والسير فى دروبها المختلفة، والوقوف طويلًا أمام معالمها البارزة، والتحاور مع أهلها حتى نستطيع تكوين معرفة دقيقة عنها. 
إن الفلسفة هى عملية أو نشاط أكثر من كونها موضوعًا أو بناءً للمعرفة، وتعريف النشاط أصعب دائمًا من تعريف الكيان أو الشىء المحدد المعالم. ويحاول البعض أحيانًا تجنب هذه الصعوبة بالقول إنه لا يوجد شىء اسمه الفلسفة، بل يوجد فقط تفلسف، وهو النشاط العقلى الواعى الذى يحاول به الناس كشف طبيعة الفكر، وطبيعة الواقع، ومعنى التجربة الإنسانية. 
وقد يذهب أناس آخرون إلى القول بأنه لا توجد، على أحسن الفروض، إلا فلسفات، أى طرق متعددة للنظر إلى العالم، يصوغها مفكرون يعيشون فى مدنيات كثيرة مختلفة. 
هذه الفلسفات تتباين وكثيرًا ما تتناقض، ومن ثمَّ كان من الممتنع أن ننظر إلى الفلسفة على أنها ميدان أو بناء موحد للمعرفة.
 وفضلًا عن ذلك، فلا مفر لكل مدرسة وكل مفكر فرد من تعريف الموضوع بطريقة مختلفة، فيؤدى هذا التعريف ذاته إلى إغفال الكثير مما يود ممثل المدرسة المضادة أن يعمل لـه حسابًا.