السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أحن إلى أمي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ترددت كثيرا قبل كتابة هذا المقال، ولا أعلم عما إذا كنت على حق فى ترددى أم لا، فقناعاتى التى أؤمن بها منذ احترفت مهنة التوتر والقلق، أن الكتابة عن الشأن الخاص لا تهم أحدًا، فالناس تنتظر منى ومن غيرى أن نكتب لهم ما يفيدهم، ينتظرون منا أن نتحدث عن أوجاعهم وهمومهم ومعاناتهم، وهذا حق لهم لا ينازعهم فيه أحد، وكما هو حق لهم، هو أيضًا فرض علينا لا نستطيع إنكاره، ولا نستطيع أن نحيد عنه، مهما كانت أوجاعنا الذاتية أو مشكلاتنا الحياتية، لكن، هل يستطيع الكاتب أن يتحدث عن الأمل وهو يتألم؟.. هل بمقدوره أن يرسم بكلماته البسمة على شفاه الناس وهو حزين؟.. وكيف له أن يكتب، مثلًا، عن الأمهات فى عيدهن، وهو لا يستطيع الكتابة عن أمه، ولا يستطيع التعبير عن حزنه لفقدانها، ألا يوصف هذا بـ«الشيزوفرينيا».
منذ أسابيع قليلة افتقدت أمى، ماتت ودفنتها، وبعد العزاء عدت لممارسة عملى، ظنًا منى بأننى سأهزم أحزانى، وسأقهر آلامى، لكننى لم أستطع لا هزيمة الأحزان ولا قهر الآلام، ثم سافرت لزيارة قبرها فى ذكرى الأربعين، وأثناء الزيارة مكثت أنا وأشقائى وقتًا طويلًا، هيأ لى خيالى، أنها ستخرج، وسنرتمى بين أحضانها وننهل من بحار دعواتها لنا، فى تلك اللحظات، رحت أسترجع شريط ذكرياتى وحياتى كلها، شقاوة الطفولة فى السنوات البعيدة، عناد أيام الصبا وعنفوان بواكير الشباب، تذكرت كم سهرت وتألمت لمرضى، وكم كانت سعيدة عندما كنت ألعب وأضحك، وكيف كانت تلقانى بلهفة عندما أسافر لزيارتها، بعد أن جئت إلى العاصمة قادما من بلدة نائية فى الصعيد الجوانى، جئت إليها باحثا عن موطئ قدم فى بلاط صاحبة الجلالة، ومثل قسوة المدينة التى لا ترحم، كانت قسوة الحياة، ولولا دعوات أمى التى كانت تحيط بى أينما ذهبت ما احتملتها، وما احتملت العيش فيها، فقد كنت أتوضأ ليل نهار بدعواتها، كانت دعواتها سياجا يحمينى ويقينى من شرور البشر. 
طرق الموت بابى بقسوة مزقت روحى، تلقيت على هاتفى خبر وفاتها قبل يومين فقط من موعد سفرى إليها، فقد كنت أستعد وبصحبتى ابنتى لزيارتها، فجأة نزل الخبر على أذنى كالصاعقة، ووجدت نفسى أصارع أمواجا عاتية لا طاقة لى بها، ولا قدرة لى على احتمالها، راحت تتقاذفنى موجة تلو الأخرى عكس اتجاه الريح، بلا رحمة، بعيدًا عن شواطئ الصبر على المكاره، ولمَ لا، فإذا كان المرء منا يشفق على من يأتيه خبر موت عزيز لديه، فما بالنا إذا كان الخبر يخص أعز الناس له، كان موت أمى حدثًا جللًا، لى ولأشقائى، ولا أبالغ، إذا قلت إنه هز وجدان «أحفادها»، أبناءنا وبناتنا، فقد كانت أمى ببساطتها وحنانها الفطرى تُجسد بسخاء، قولا وفعلا، المعنى النبيل، الرائع، للمقولة الشعبية المتداولة فى أوساطنا «أعز الولد ولد الولد»، كان حضنها الدافئ يسعهم جميعًا، بدون تفرقة، سواء الذين يقيمون معها فى بلدتنا أو يقيمون فى القاهرة أو المقيمين فى السعودية. 
أنا الآن لا أستطيع أن أقول لها فى عيد الأم «كل سنة وأنت طيبة».. ولا أملك سوى اجترار الذكريات، 
والحكايات عن براعتها فى زرع بذور المحبة بيننا أنا وأشقائى، وبين أحفادها، وكيف علمتنا معنى الفضائل والإيثار والتسامح، والترفع عن الصغائر، وكيف تحملت بعد وفاة والدى عبء الأسرة كالرجال، فهى لم تقبل يوما أن تكون مكسورة الجناح، عاندت قسوة الحياة، فصارت نموذجا للتقدير بين الجميع، تركت مثلما ترك والدى لنا سيرة نتباهى بها ونتفاخر بها ما حيينا، وفى المقابل، موتها ترك لنا وجعا يسكن بين الضلوع، وحزنا لن تبدده الأيام ولن تمحوه السنون، إن كان فى العمر سنون.
أعلم يقينًا أن الموت قدر لا مفر منه، كما أننى أومن بأنه حقيقة أبدية، لذا فإن غالبيتنا يعرف القول المأثور إن كان شعرًا أو نثرًا، «الموت كأس وكل الناس ستشربه، والقبر دار وكل الناس ستسكنه».. وإن كان هذا يخفف من قسوة الحزن، لكننا فى النهاية بشر، نحب ونكره، نفرح ونتألم، لذا فإننى لا أجد عيبا فى أن أبوح بما يجتاح كيانى، من تضاد بين أنين مكتوم وواقع لا بد من التسليم به والتعايش معه، بين حكايات وذكريات عمرى كله، وما تفرضه علينا الظروف والمسئوليات الحياتية.
ليس بمقدورى أن أتجاوز أوجاع توطنت بداخلى، ووجدت لها براحا فى قلبى، وجميعكم يا سادة يا كرام يعرف ويعى أن الحزن فى بلادنا جزء من ثقافة موروثة، لا يغيره الزمن، لكن ربما يخفف البوح من عنفوانه وقسوته على النفس.
عفوًا.. أنا تحدثت إليكم بما لا يعنيكم، لكن ربما يصغى بعضكم لما تحدثت به، وربما يعرض البعض الآخر، فإن كان يعنيكم أو لا يعنيكم، وأغلب الظن أنه لا يعنيكم، باعتباره شأنًا خاصًا، إلا أن ما كتبته ليس شأنًا خاصًا، لأننى أكتب عن الأم فهى شأن الكل، وربما تتشابه حكايتى مع مئات الآلاف من حكايات الحزن على فقدان الأمهات، باعتباره «كاس داير». هؤلاء الآلاف من ذوى الحكايات، وأنا واحد منهم، يشعرون بمعنى غيابها يوم عيدها، لأنهم يفتقدون الحب، والعطاء الدائم بلا مقابل.. فما أروع تلك العبارة التى لم أستطع أن أقولها فى عيدها «كل سنة وأنت طيبة يا أمى»، وما أسعد الإنسان منا وهو يستمع إلى أغنية «ست الحبايب يا حبيبة، يا أغلى من روحى ودمى، يا حنينة وكلك طيبة، يارب يخليكى يا أمى»، لا أعرف كيف سيكون وقع كلماتها على شخص مثلى.. وما أجمل أن ينشد المرء منا القصيدة الرائعة، أيقونة الشاعر الفلسطينى محمود درويش، التى قال فيها «أحن إلى خبز أمى، وقهوة أمى، ولمسة أمى، وتكبر فى الطفولة يوما على صدر يوم، وأعشق عمرى، لأنى إذا مت، أخجل من دمع أمى، خذينى إذا ما عدت يومًا، وشاحًا لهدبك وغطى عظامى بعشب، تعمد من طهر كعبك.. وشدى وثاقى بخصلة شعر.. بخيط يلوح فى ذيل ثوبك».. ما أروع تلك الكلمات.