تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
آلمنى كثيرًا ما شهدته فى الفترة الماضية من حالات الانفلات الإعلامى التى فاقت كل الحدود وسط صمتٍ مطبق من الهيئة الوطنية للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة، وغياب تام لما يُطلق عليه «نقابة الإعلاميين»، ومن الواضح أن الأمل آخذ فى التراجع كثيرًا فى الأجيال الكبيرة من الصحفيين والإعلاميين، لذا يجب أن نهتم بالأجيال الجديدة والاهتمام بتنشئتهم المهنية منذ الصغر، ومن الممكن أيضًا أن تخضع الأجيال الكبيرة سنًا لدورات فى التنمية المهنية، وهذا أحد معايير الجودة فى أى عمل، بما فى ذلك العمل الصحفي.
لقد اهتمت عديدٌ من البحوث بعملية التنشئة المهنية وقسمتها إلى مراحل عدة: المرحلة الأولى وهى التنشئة الاجتماعية التى تتأثر بالتعليم والعلاقات الشخصية، والمرحلة الثانية هى التنشئة المهنية الاستباقية وهى تتكون نتيجة انطباع الفرد عن بيئة العمل قبل الانتقال إليها من خلال التواصل مع الصحفيين والإعلاميين العاملين بالمؤسسة نفسها، والمرحلة الثالثة هى مرحلة التنشئة المهنية وهى تشمل محاولة التكيف مع المعايير والقيم الجماعية للمؤسسة الصحفية أو الإعلامية، حيث يُنظر لهذه العملية على أنها عملية التماهى المتبادل مع وسط معين، وهى جزء من تكوين الشخصية المهنية للصحفيين والإعلاميين.
وتحاول المؤسسة الإعلامية التأكد من أن الأعضاء الجدد يمكن الاعتماد عليهم فى المحافظة على تلك القواعد، وعادة ما تسعى المؤسسات الصحفية لإكساب تقاليدها لمحرريها وإعلامييها الجدد من خلال بعض الأساليب المترتبة بعضها على البعض الآخر؛ فعادةً لا يُسمح لأى عضو جديد فى المؤسسة أن يؤدى أعمالًا مهمة بمجرد استلامه للعمل، وإنما يقوم الصحفيون القدامى من ذوى الخبرة مع الصحفيين الجدد ليلقنوهم مبادئ سياسة المؤسسة وكيفية تأدية دورهم كأعضاء بها، وتدريجيًا يُسمح للعضو الجديد بأن يؤدى أعمالًا بمفرده، والهدف من هذه الفترة واضح ومحدد، وهو أن تجعل الصحفيين أو الإعلاميين الجدد يتعرفون على التقاليد الضمنية للمؤسسة، وهى العملية التى يمكن أن يطلق عليها «التعارف الاجتماعي».
كما أن ثمة عملية أخرى تفوق هذه المرحلة فى تلقين المحررين أو الإعلاميين الجدد مبادئ السياسة التحريرية أو الإعلامية، وهى ما يمكن أن نُطلق عليها «التحكم الاجتماعي»؛ حيث يشمل التحكم الاجتماعى كل أنماط السلوك للأعضاء العاملين بالمؤسسة، وهو ما تؤكده إحدى الدراسات التى استهدفت الكشف عن الطريقة التى يدرك بها الكتاب والمحررون والإعلاميون سياسة تحرير الوسيلة الإعلامية التى يعملون بها وأساليب تنفيذها، بالرغم من عدم وجود توجيهات صريحة أو تعليمات مباشرة وأدوات واضحة لفرض هذه التعليمات.
وتؤكد نتائج إحدى الدراسات المهمة فى هذه السبيل، أن الجهة المالكة للصحيفة أو الوسيلة الإعلامية تنفذ سياستها عن طريق أقلمة المحررين والإعلاميين الجُدد وفقًا لمحددات هذه السياسة واتجاهات رؤساء التحرير، وتشير نتائج الدراسة إلى أن ثمة أساليب تستخدمها الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية فى معالجة أى انحرافات تظهر على سطح الممارسات الإعلامية من جانب هؤلاء المحررين أو الإعلاميين، منها استخدام السلطة فى توقيع العقوبات وإثارة الشعور بالالتزام واحترام الرؤساء واستغلال رغبة الإعلاميين فى تحقيق النجاح، وتقديم المكافآت والإغراءات لضمان اندماجهم داخل الجماعة.
وتؤثر ضغوط عملية الإنتاج بشكلٍ كبير فى الممارسات الصحفية للقائمين بالاتصال، وعلى معايير انتقاء ونشر الأخبار والمواد الصحفية؛ حيث يتحول قدرٌ من نشاط المؤسسة الصحفية أو الإعلامية إلى نشاط روتينى نتيجة لضغوط عملية الإنتاج الصحفى ومساحته، والمواعيد المحددة لنشره، بغض النظر عن متطلبات الخلق والتجديد التى يفترض توافرها فى العمل الصحفى والإعلامي؛ حيث تُفرض تصورات روتينية مسبقة عن كيفية أداء الأعمال الصحفية؛ فتصنيف القصص الإخبارية يتم فى إطار يعكس المتطلبات العملية لتوزيع العدد المحدود المتاح من المندوبين، وتخطيط عدد الصفحات الخاصة بكل عدد كما يأخذ فى اعتباره الدرجة التى يتم بمقتضاها جدولة حدثٍ ما مقدمًا، ودرجة الحاجة العاجلة لنشره. والأنباء لا تحتاج فقط لأفراد يقومون باستيفائها، ولكن لا بد من أن يتم التخطيط لها مسبقًا، ولعل اجتماعات التحرير الصباحية فى دور الصحف التى يتم فيها وضع خطط العمل اليومية وتوزيع المندوبين والمصورين على الأماكن المختلفة هو خير مثال على ذلك.
وفيما يتعلق بأسلوب اكتساب مبادئ السياسة التحريرية والإعلامية فى المؤسسات الإعلامية المصرية، توصلت دراسة دكتوراه مهمة قامت بإعدادها تلميذتى سلوى إبراهيم دهمش بقسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، إلى أن تقاليد العمل بهذه المؤسسات، كما أشار المبحوثون، تُكتسب فى المقام الأول من خلال أسلوبيْ التوضيح من قبل الرؤساء المباشرين أثناء سير العمل وفى الاجتماعات التحريرية، أو من خلال فترة التمرين والتدريب داخل الصحيفة بنسبة (٦٥٪) لكل منهما، وبلغت نسبتهم (٧٥٪)، (٥٩.٤٪) على التوالي، بينما جاء اكتساب مبادئ السياسة التحريرية من خلال أدوات الثواب والعقاب (المكافآت والترقيات وعدم النشر)، بنسبة (٣٠٪)، ثم جاء الذين رأوا أن السياسة التحريرية توضح من قبل الزملاء أثناء سير العمل بنسبة بلغت (٢٨.٨٪)، بينما جاء اكتساب مبادئ السياسة التحريرية من خلال تنظيم دورات تدريبية وندوات لشرح السياسة التحريرية بنسبة (٢١.٣٪)، ثم جاء الذين رأوا ان السياسة التحريرية تكتسب عن طريق إرشادات مكتوبة ومعلنة بالصحيفة للسياسة التحريرية بنسبة بلغت (١٣.٨٪).
وتشير دلالة تلك النسب إلى أن أسلوب توضيح الخطوط العامة للسياسة التحريرية من الرؤساء المباشرين أثناء سير العمل هو الأسلوب الأكثر استخدامًا، وهو ما يعنى استيعابها بشكل تدريجي، ومن خلال التجربة والاحتكاك المباشر بين الزملاء، فيكون الصحفى خبرته الشخصية حول الخطوط العامة للسياسة التحريرية.
وفى رأينا أن هذا غير كافٍ لسببيْن مهمين، أولهما اختلاف مفهوم المهنية الإعلامية من إعلامى إلى آخر، وثانيهما أن البعض يرى فى هذه المهنية قيودًا على أن يحقق السبق الصحفى والإعلامى فيلهث وراء أية معلومات أو مقاطع فيديو أو شائعات متواترة؛ لأن هذا يحقق له الشهرة والمرور العالى للموقع والمشاهدة المرتفعة للبرنامج.
نحن فى حاجة إلى دورات لتنمية المهنية الإعلامية فى مصر لنستعيد الإعلام المصرى من براثن حقبة الانفلات الإعلامى الماضية، وهو الدور المنوط بالهيئات الإعلامية الثلاث ونقابتيْ الصحفيين والإعلاميين.