الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الاتجاه الحدسي في المعرفة "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتميز الحدس، من حيث هو طريقة فى معرفة الأشياء، عن غيره من طرق المعرفة ببعض السمات:
أ- فهو معرفة مباشرة، لا تحتاج إلى وسائط ولا تسير بالتدريج من خطوة إلى أخرى.
ب- وهو ينقلنا مباشرة إلى «لب» الموضوع الذى نريد أن نعرفه، أو إلى جوهره الباطن، بدلًا من أن يكتفى بتقديم أوصاف خارجية أو سطحية لهذا الموضوع، أو يقتصر على معرفته من خلال مقارنته بغيره.
جـ- وهو فى جوهره معرفة «فردية»، أى أنه يتاح لشخص بعينه، لا لأى شخص آخر. وهو يتطلب «تجربة» من نوع خاص، يصعب نقلها عن طريق الوصف للآخرين.
وعلى ذلك، كان هناك دائمًا من يتصور أن المعرفة الحقة لا تستند إلى الحواس، ولا تستخدم البراهين أو الأدلة العقلية، بل هى الحدس المباشر الذى يوصلنا إلى جوهر الموضوع الذى نريد معرفته. (د. فؤاد زكريا، التفكير العلمي، ص ٩٥) 
ولنأخذ مثالًا لتوضيح ذلك: 
انظر إلى نفسك، كيف تعرف أنك موجود؟
هل تدرك وجودك بالحواس؟... لا.
إنك لا تدرك وجودك بالعين أو الأذن أو الأنف، لأنك لو أغلقت هذه النوافذ كلها فستعرف رغم هذا أنك موجود. إذن أنت لا تدرك وجود نفسك بالحواس. وأيضًا أنت لا تدرك وجود نفسك بالبرهان عن طريق مقدمات تستنتج منها نتائج، أى أنك لا تعرف وجود نفسك بالعقل. حواسك عاجزة عن إدراك وجود نفسك، وعقلك أيضًا عاجز عن إدراك وجود نفسك. إذن لابد من توافر وسيلة أخرى لتحقيق هذه المعرفة التى من هذا النوع. لابد من توافر وسيلة أخرى غير العقل وغير الحواس نستطيع بواسطتها أن نعرف، خاصة فى الحالات التى يمتزج فيها الشخص العارف بالشىء المعروف، حين يمتزج الشخص المدرِك بالشىء المدرَك. ففى هذه الحالات تكون وسيلة المعرفة هى «الحدس»، وتسمى المعرفة الناتجة عنه باسم المعرفة الحدسية.
وعلى رأس الفلاسفة الحدسيين الفيلسوف الفرنسى المعاصر «هنرى برجسون» Bergson، H. (١٨٥٩ - ١٩٤١)، الذى جاءت فلسفته كرد فعل على سيادة المذهب المادى فى القرن التاسع عشر، لقد ازدهر المذهب المادى بسبب الكشوف والاختراعات العلمية فى القرن التاسع عشر. فجاء برجسون ورفض العقل، الذى هو أداة العلم والمعرفة العلمية، وقال بالحدس الذى هو عند «برجسون» أداة الفلسفة والمعرفة الفلسفية.
إن «برجسون» يميز بين العلم والفلسفة، ويرى أن دائرة العلم هى دائرة المادة، دائرة الكم والامتداد والمكان، ومنهج العلم هو «التحليل» والتصنيف وأداته هى «العقل». بينما دائرة الفلسفة هى «دائرة الروح»: دائرة الزمان والديمومة والكيف والتوتر، ومنهج الفلسفة هو التعاطف الروحى، وأداتها الحدس الذى يقوم الإنسان عن طريقه بنوع من أنواع «الفحص الروحى» للواقع بحيث يشعر ويحس بنبضات هذا الواقع. 
المعرفة العلمية فى نظر «برجسون» تنظر إلى الواقع من الخارج، فى حين أن المعرفة الفلسفية تستطيع أن تنفذ إلى «باطن» الأشياء. وعلى ذلك يمكننا القول، إن الفرق بين المعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية هو الفارق نفسه بين شخص يصف مدينة ما من «الخارج» وآخر يعيش فى قلب المدينة ويجتاز شوارعها ويجوب متاجرها ويتعرف عليها من «الداخل». وهو الفارق نفسه بين معرفتك بشخص ما حين تقتصر على النظر إليه «من الخارج» فتصف ملامحه وملابسه وترصد أفعاله وحركاته.. إلخ، وبين أن تنفذ إلى «باطن» ذلك الشخص، وتطلع على كوامن نفسه عن طريق الحب. إنك فى الحالة الأخيرة - حالة الحب- تدرك صميم وجود ذلك الشخص وتنفذ إلى ماهيته. وعلى ذلك فإن المعرفة من الخارج هى معرفة العلم وأداتها هى «العقل»، بينما المعرفة من الداخل هى معرفة الفلسفة وأداتها «الحدس».
ويذهب «برجسون» إلى أن خاصية العقل الإنسانى إنما تنحصر على وجه الدقة فى القيام بما يقوم به مصور السينما، إذ يقوم بتقطيع وتجزئة الواقع إلى شرائح خالية من الحياة والحركة. أما الحدس فهو الطريق الوحيد لمعرفة الشىء ككل فى تمامه وفى كليته.