الإثنين 20 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أمهات العرب المُشردات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وحيدات بائسات مشردات، صباحهن مزدحم بالوجوه العابرة والساكنة، ليلهن المكرور صامت حزين، يهربن منه بالانكفاء مُبحلقات بصور نهاره التى منها ما يبلسم وحدتهن الموحشة، ومنها ما يقذفهن بسيل القساوة والنبذ، لحيزهن فى المكان سيرة وأى سيرة، حكاياتهن نسيجُ ماضٍ أولهُ متين أو شُبه لهن، وفَكتْ خيوطه بلا رحمة مقصات حادة، قاطعةً وصل ما جهدن لنسجه وشبكه بدأب ومداومة، ومنهن بلا حكاية وكأنها فتحت عينها على الحياة بلا كافل ولا معيل، وما أشد قساوة الإنسان حين تعمى عينيه زوائل فانية يبيع لأجلها صنوه ووريد دمه ويتركهُ نهب أقداره.
فى إحصاء قريب طالعتهُ عن الجزائر أكثر من عشرة آلاف امرأة مشردة لأسباب عدة، ما ذكرنى بعواصم بعض من بلداننا العربية مما زرت لانشغال وظيفي، وكنت ساعة أعبر شوارع رئيسة أو أزقة داخلية تقع عيناى على نساء مشردات يبتن فى العراء يلتحفن ما لا يقى برد شتاء، وما يُعلن عن عُسر توفر قُماشة الاتقاء والستر بمواجهة كل عين، نساء يأخذنى أسفى قبل دهشتى وفضولى وأنا العابرة بالمكان لمحادثتهن لسماع أنينهن وعقلى غاضب مُحتج، وهن يتموضعن لساعات برقعة صغيرة جافلات عن أعين كل عابر يرفعن رأسهن خلسة متابعات خطو المُجرجرين أقدامهم ساعين فى سبيل الرزق، أو مشفعات نظرهن فى سيارات تُحركهن وتُوقفهن إشارة، بعضُ راكبيها لا يكلفون أنفسهم بزاوية نظر وسؤال عن كائنات معجونة ببؤس المعيشة تقاسمهن فضاء يلفظهن كل يوم الى مصير مجهول.
«وحيدة لكن الشارع بيتى وعابروه أهلي!»، هكذا أجابتنى حين سألتها «ألا تخافين هنا وأنت امرأة ووحيدة؟» عرضت على بضاعتها بضعُ مناديل ورقية وبعض خردوات، تأملتُها وأنا أتابع نظراتها المُثقلة بالوجع، وقلت فى نفسى وأنا الموجوعة المحزونة بمثلها، ليت محارم الورق تمسح همومنا أيضا ما يملأ صدورنا من منغصات تزعجنا وتحفر أيامنا بالإحباط والأسى مما نرى وما نسمع، صار العالم قريبه وبعيده خزان أحزان وجسدا مشوها بالتقرحات الدامية والثآليل، بادرتنى قاطعة مراجعة ذهنى لما نشهده: تزوجت مبكرا ولم أكمل تعليمي، وأنجبت من الأبناء خمسة نجحوا فى تعليمهم وكلٌ أخذته تكاليف الحياة التى سعوا إليها دون التفات عرفوا بلدانًا بعيدة تُشبعهم استقرارا ليومهم وغدهم.. صرت وحيدة منذ توفى ابنى الذى عشت معه بقريتنا، لفظتنى زوجته وأبناؤها صرت عالة عليهم، هربت إلى عاصمة البلاد تنقلت من عمل الى آخر، فى كل عمل جسدى ضعيف ونافستنى أجسادٌ شابة، سكنتُ منذ زمن عند حائط هذا الجامع أمضى نهاري، وفى ركنه الحاضن يؤنسنى الليل رغم وحشته، هنا بيتى ألتحف السماء وتنادينى شمس كل يوم لتجلدنى بسياط الألم والقهر فأنهض وتمضى أيامى أمسى فيها كغدي.
هؤلاء النساء المشردات من تقع أعيوننا عليهن ونحمل فى قلوبنا شفقتنا عليهن ونمضى غافلين، وكونهن نساء وحيدات مقصيات يصير لزاما إنسانيا علينا أن نصرخ مطالبين بحقهن فى أمكنة تلمُهن وتقيم عوزهن، هو دور ومهمة حكومات ووزاراتها المعنية، وهل لرجال الأعمال العرب حين يتقاعدون وينشغلون بما جهزوا لسنين عجزهم بما يتوفر لهم ماديا أن يتصدوا بمشروع «بيت الأمهات» كمراكز إيواء تأوى النساء الوحيدات ببلداننا حين يغدر بهن الزمان كما الإنسان، ما يُذكرنى بمبان شاهدتها وزرتها بولاية أمريكية لا يسمونها ملجأ أو دار عجزة، هى مبنى يقام بجهود فردية متطوعة، متاح لكل من انقطعت بهم سبل حياة كريمة تتوفر فيه متطلبات الحياة اللائقة مأكلا ومنامة وقسما للعلاج ومكتبة للقراءة كما وحيز لممارسة الهوايات، وحديقة تحتضن كراسيها أجسادهن التى أعيتها بلا هوادة تصاريف الحياة القاسية.
أُعيد وأُؤكد أن هل لرجال الأعمال العرب حين يتقاعدون وينشغلون بما جهزوا لسنين عجزهم بما يتوفر لهم ماديا أن يتصدوا بمشروع «بيت الأمهات» كمراكز إيواء تأوى النساء الوحيدات؟