لا أخفى عليكم أننى قطعت الأرض طولا وعرضا أبحث عن الأمل فى الجحور والقبور وبين الصخور لم أجده، أخذت بكل الأسباب واجتهدت على قدر المستطاع لكن لا جدوى من الاجتهاد فى منظومات يحكمها الحظ لا الشطارة، فما أن تصعد درجة حتى يقابلك ضعاف النفوس فيدفعونك دركات، وأمام هذه المعضلات لا تملك إلا أن تستكين، تتحول إلى شخص نمطى حتى تستطيع أن تعيش فى وسط هذه الكومة من البشر، فما جدوى أن تقرأ وتكتب أو حتى تناقش؟ ما جدوى أن تكون مبدعا أو فنانا أو خلاقا أو طامحا أو حتى إنسانا؟ لنكن يا سادة مسوخا.. لنكن آلات نقضى العمر فى روتين يومي لا يتغير.. العبادات عادات.. والحلم على قدر ما فى البطاقات الممغنطة، العمر معلق على الجدران تاريخ وتحته حكمة «لا تحاول»، منذ عقود وأنا أقف فى هذا المكان برغم كل هذا السعى.. منذ عقود وأنا أتكلم ولم أع أن الزمان لا يصغى لأنه ليس له آذان.. منذ عقود وأنا أفرغ سقايتى دون انتباه أن الظمأ قادم لا محالة، جبل من اليأس يشكل أضلعى، لم أعد أهتم بمن ولد أو من مات، أشعر بدوار وفقدان للذات وللناس وللحياة وللمعنى، أشعر أننى آلة لم يصنعها الله ولكن صنعها أولئك الغربيون لتعبث بها الأقدار، لا أعرف سبيل نجاة ولن أبحث فما الجدوى للبحث والعمل والاجتهاد.. كل ما سبق جعلنى ككلكم أهم شىء فى حياتى على الإطلاق هى «المحفظة» لا القلب ولا الروح، فقط «المحفظة» لأن بها الحياة.. حياة الإنسان المميكن.. «كارت الكهرباء.. البطاقة.. رخصة القيادة.. الفيزا وبقايا الراتب.. وربما أنا.. ربما روحى فى أحد جيوبها»، فى يوم مثل كل الأيام التى نعيشها، نهضت من على فراشى بعد جدال طويل مع نفسى حول جدوى القيام، انتهى بأنه أمر حتمى لأن هناك أشخاص أخرى مكبلين فى عنقك لا يمكنك أن تأخذ قرارا بالانعزال وتلقى الطوق من حول عنقك.. فمسموح لك بأن تثور مرة أو مرتين لكن أن يظل الطوق كما هو وأن تواصل الدوران بعدما تفرغ شحنة الهياج، فما دمت دخلت تلك «الساقية» فتلك قوانينها وأنت أضعف من أن تتخطى حواجزها.. لتتصرف كالحمار طوعا حتى لا تكون حمارا مجبورا، نهضت من على الفراش وصليت الصبح وأنا لم أتذكر كم ركعة أديتها، ارتديت حلتى وهذا القناع الذى أضعه على وجهى كل صباح، تحسست جيوبى فلم أجد «المحفظة»، بحثت هنا وهناك لم أجدها، مرت الدقائق وأنا أبحث وكل من فى البيت يبحث وكل من فى الشارع يبحث دون جدوى، لكن لم نكف عن البحث فليس هنا خيار آخر غير البحث، فلو كان غلاما أو فتاة لتركنا أمره لله لكنها «المحفظة والراتب وبطاقة التموين والفيزا»، مرت الساعات، وأنا أبحث فى العشر خطوات التى أعيش فيهن، تأتينى كلمات الناس كالحمم: «إن شاء الله هتلاقيها.. ولا يهمك هتعمل بدل فاقد.. إيه يعنى خدت الشر وراحت.. فى داهية.. هى كان فيها أد إيه؟» لا أجيب أحد.. فقط أشعر بدوار وأجلس وأخاطب الله: أنا معملتش حاجة غلط يا رب علشان تعمل معايا كده؟ استسلم للنعاس وأنام، وإذ بى أرى أننى فى فضاء رحب ملئ بالزهور أحلق هنا وهناك، وفجأة انكمش وانكمش حتى أصير شيئا لا يتخطى عقلة الأصبع، أتدحرج على الأرض وأدخل «المحفظة»، أختنق وأصرخ وأصرخ.. أبكى وأبكى.. تسقط الدموع على خدى فاستيقظ وأتذكر أننى وضعت بالأمس «المحفظة» فى أحد الأدراج، أجرى نحوه وأجدها، أقول لأمى أبشرى فقد وجدت «المحفظة»، وتعلمت الدرس جيدا، وفهمت الحكمة الربانية وراء ضياعها.. «اكسر قيودك وعيش.. حلمك هو حياتك.. انقش اسمك على جدران الزمن.. كون زى ما تحب.. كلهم بشر أضعف من أنهم يغيروا مصيرك.. أخرج حلمك من المحفظة.. وثور.. ثور وحطم كل قيودك وحلق فى السما.. ما تسيبش لجام أحلامك لحد».
البوابة لايت
ما الحكمة الربانية وراء ضياع "المحفظة"
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق