الجلوس معهم أسبوعيًا كان عادة، تحولت بفعل المسئولية إلى فرض، والحديث معهم كان هروبًا من الكلفة إلى السجية، ثم تحول بفعل عطب النخبة إلى حلقات نقاشية، كنت أتحدث لآذان تصغى، ثم صغيت لألسنة صارت الأبلغ، على رأس حقل القمح.. تشكلت الدائرة حول فراغ، ليبدأ الصالون الثقافى بالحديث عن تلك القرية المجاورة المحظوظة التى شيعت منذ أيام شهيدين، كانت لهما بطولات فى سيناء، ثم تطرق الحديث إلى (نورهان) التى أحرجت قيادات جماعة الإخوان فى مؤتمر نظمته قناة «الجزيرة» فى تركيا ونقلته على الهواء، كان مكمننا إعجاب أحدهم بـ«نورهان»، أنها قالت ما قاله لنا فى جلسة الأسبوع الماضي.. لقد فقد الإخوان ثقتهم فى أنفسهم، يخون بعضهم البعض، يحرضون الشباب فى الداخل، وينعمون برغد العيش فى الخارج، هذا ما قاله وقالته «نورهان»، وانتقل الحديث إلى تركيا وأمريكا وإسرائيل وإيران وروسيا، هذه الدول التى تتنازع على خيرات المنطقة بعد أن دمرت جيوشًا وقسمت شعوبًا، ثم كان الحديث عن الانتخابات الرئاسية التى أجمع الحضور على أهمية المشاركة فيها. رواد الصالون يتخذون من الجلباب زيًا، ومن (قش الأرز) مجلسًا، ومن (كومات الطمى) متكئًا.. هم ممثلون عن الفلاحين الذين يزيد عددهم على نصف الشعب المصري، هؤلاء أصبحوا منتجين للسياسة، وواهم من يعتقد أنهم ما زالوا فى مرحلة التلقين، حالة الحراك السياسى فى الريف المصري، محركها لم يكن الإعلام ولا النخبة، فقط.. الخوف على الوطن.
الفلاحون فقدوا الثقة فى أغلب الإعلاميين بعد أن أصبحوا شهودًا على تحولاتهم، وفقدوها فى العديد من نواب دوائرهم بعد أن انقطع التواصل معهم، ولم يعد أمامهم سوى السيسى يعولون عليه ويولونه ثقتهم.
فى الصالون الأخير، حرص عدد كبير من الشباب على الحضور، أذهلنى ما اتفقوا عليه فى الأيام القليلة المقبلة التى تسبق الانتخابات الرئاسية، حيث تم تشكيل فرق لطرق الأبواب للتوعية بأهمية المشاركة فى الانتخابات باعتبارها واجبًا وطنيًا، ثم تطورت الفكرة لتخرج من نطاق القرية إلى القرى المجاورة، بعدها يتم تنظيم مؤتمر تدعى إليه كل القرى التابعة للمركز للحديث عن التحديات الكبيرة التى تواجه مصر، والتى تحتم على الجميع الالتفاف حول القيادة السياسية. هذا التطور السريع فى تعاطى الريف مع السياسة يحتم علينا ليس فقط تغيير الوجوه الإعلامية، ولكن تغيير الخطاب الإعلامى أيضًا أصبح ضرورة، لم يعد المواطن يتقبل التوجيه المباشر، ولا المذيع الذى يجعل من نفسه وصيًا، ولا النخبة التى تتعالى عليه، ولا نائب البرلمان الذى لا تطأ قدمه الدائرة إلا فى فترة الانتخابات.
الدور المنوط بالإعلام تجاه المواطن فى الريف المصرى توارى أمام الانشغال بالنخبة، ودور نائب البرلمان فى قيادة أبناء دائرته أصبح شبه معدوم بسبب انقطاع تواصله معهم، لكن الفوضى التى صاحبت أحداث يناير كانت الدرس الذى وعاه مواطنو الريف، وحتى لا تتكرر المأساة أصروا على أن يكونوا الجزء الأهم من المشهد.
الانتخابات الرئاسية سوف تثبت أن صالونات (قش الأرز) أفرزت مواطنًا قرويًا منتجًا للسياسة لا مستهلكًا لها، وأن الإصرار على مخاطبة النخبة والاهتمام بها ومحاولة استرضائها للمشاركة فى الانتخابات، لا يمكن أن يكون بديلًا لاستقطاب هذا القطاع الأكبر من مواطنى الريف، الطوابير أمام اللجان منذ الصباح فى قرى مصر ستكون المشهد الأهم الذى نباهى به أمام العالم.