ظل حلم السفر يراودني في طفولتي، فقد كنت دائما أردد كلمة "on deck" في المنزل طوال الوقت. لن يفهم أحد تلك الكلمة سوى عائلتي الصغيرة، فعندما كنت أغضب من الأوامر وضغط الدراسة، الذي كنت أظنه ثقيلا حينها، كنت أقف بحجمي الصغير وسط المنزل مهددة أمي، سأسافر على سطح سفينة دون الحاجة إلى ذلك الباسبور اللعين، وسوف تندمون، سوف أقوم بتنظيف أطباق المطاعم في أحد البلاد المطلة على البحر الأبيض المتوسط إلى أن أجد وظيفة مناسبة. كنت أرى أن السفر هو الحل المناسب لكل المشكلات، آنذاك.
كان تفكيري طفوليا ساخرا في ذلك الوقت، وعندما كبرت والتحقت بالجامعة ودرست ما أحب مرت حينها السنوات الأربع بسرعة غريبة، وها أنا أجد نفسي -لأول مرة- على متن طائرة متجهة إلى المملكة المتحدة الأول من يناير، حيث الأجواء باردة جدا، أودع الأصدقاء تارة والأهل تارة أخرى مستعدة لدراسة اللغة الإنجليزية في الخارج وكلي شغف لهذه التجربة.
لكنني عندما وصلت إلى بيت العائلة الإنجليزية، التي من المفترض أن أقيم معها، أدركت أن السفر ليس بهذا الكم من المرح والتفاؤل، فالأوامر التي تصدر من أشخاص غرباء عنك قاسية بدرجة أكبر بكثير من العائلة، الأجواء الباردة تجتاح عظامك لتذكرك بدفئ عائلتك؛ لتكتشف فجأة أنك من المفترض أن تقوم بعمل كل شيء بمفردك دون أي مساعدة: غسل ملابسك وطهي طَعَامِك وحتى تضميد جراحك المعنوية قبل الجسدية.
في الحقيقة للسفر فوائد عديدة، ولكنه قاس بحجم فوائده، ستجبر على الحديث مع الغرباء ومصادقتهم وتقبل الصدمات منهم أيضا حتى تستمر الحياة، فلن تستطيع الاستمرار وحدك أبدا، فلا بد من رفيق تتكئ عليه في تلك الأوقات. أتذكر حينها أن أبي لم يكن يهاتفني قط، تجنبا لانهماري في البكاء حينما كنت أسمع صوته، وما كان من أمي إلا أن تشاطرني كل لحظاتي الصعبة في غربتي.
والآن وعندما أكملت عامي الستة والعشرين، أكرر التجربة على الضفة الأخرى من بحر المانش، حيث باريس تلك المدينة الساحرة، أعيش نفس التجربة بين الحافلات الكبيرة واتجاهات المترو المربكة والأمطار الغزيرة والحركة السريعة، التي ملأت قلوب الناس هنا بالبرود، أصارع الزمن والروتين بعيدا عن حضن عائلتي الدافئ وبلدي الحبيب، فهذه سنة الحياة حتى نكتمل عقليا وفكريا، ونبني مستقبلا، يحترمه أطفالنا قبل أن نأتي بهم إلى هذا العالم، فإن لم تتعلم كل يوم شيئا جديدا، فأنت لا تستحق هذه الحياة.
لكن إذا عاد بي الزمن مرة أخرى إلى الوراء أقسم لكم أنني -أبدا- لم أكن لأقول لعائلتي "On deck".