لقد تساءلنا عن مصدر المعرفة أو وسيلة المعرفة، طرحنا السؤال على التجريبيين أو الحسيين، فقالوا إن وسيلة المعرفة هى الحواس.
وأجاب العقليون إن وسيلة المعرفة هى العقل، ونود أن نشير هنا إلى أنه إذا كان أصحاب المذهب التجريبى يفضلون الحواس على العقل كأداة للمعرفة.
والعقليون يفضلون العقل على الحواس كأداة للمعرفة، فليس معنى هذا أن أصحاب المذهب التجريبى ينكرون العقل إنكارًا تامًا، أو أن العقليين ينكرون الحواس إنكارًا تامًا.
ففيما يتعلق بأصحاب المذهب التجريبى من العقل، نقول إنه لا يوجد مذهب فلسفى سواء أكان تجريبيًا أو غير تجريبى يبيح لنفسه أن ينكر العقل تمامًا، لأن الفلسفة كلها تقوم على التأمل العقلى، وفيما يتعلق بموقف أصحاب المذهب العقلى من الحواس، فيجب أن نفهم كلامهم فى هذا الصدد على أنهم «يفضلون» العقل على الحواس، فديكارت، مثلًا، يرى أننا نستطيع أن ندرك الأشياء عن طريق الحس، بل حتى عن طريق الخيال، ولكن إدراكنا للأشياء عن طريق العقل، يجعلنا ندركها فى وضوح وتميز.
ومن هنا كانت أفضلية العقل على الحس عند ديكارت. فالمسألة إذن ليست مسألة «إلغاء» العقل عند الحسيين، أو «إلغاء» الحواس عند العقليين، وإنما هى مسـألة «أفضلية»، أفضلية الحواس على العقل عند أصحاب المذهب التجريبي، وأفضلية العقل على الحواس عند أصحاب المذهب العقلي.
نستطيع بعد هذه الملاحظة أن نتناول مصدر المعرفة عند مذهب ثالث، وهو المذهب الحدسي.
إذا كانت وسيلة المعرفة عند أصحاب المذهب التجريبى هى الحواس، ووسيلة المعرفة عند أصحاب المذهب العقلى هى العقل، فإن وسيلة المعرفة عند أصحاب المذهب الحدسى هى الحدس، أو البصيرة، أو القلب، أو العيان المباشر.
فكل هذه الألفاظ هى أسماء لوسيلة المعرفة حين يمتزج الشخص العارف بالشىء المعروف، حين يمتزج الشخص المدرِك بالشىء المدرَك، بحيث لا تكون هناك تفرقة بين الذات المدرِكة من جهة والموضوع المدرَك من جهة أخرى.
الحدس Intuition، إذن هو نوع من المعرفة المباشرة التى لا تحتاج إلى برهان أو دليل، ولا تحتاج بالتالى إلى الطرق التى تُسْتَخدم فى إقامة البراهين، كالقياس بأشكاله المختلفة والاستدلالات والاستنباط... إلخ.
الحدس هو معرفة مباشرة تضع العارف (الإنسان) إزاء موضوعه (أى موضوع المعرفة) أيًا كان هذا الموضوع، كما يمكن القول إن الحدس هو رؤية داخلية تربطنا بالعالَم بفعل واحد.
والحدس فى معناه الفلسفى يختلف تمامًا عن الحدس فى لغة الحياة اليومية عندما يُستخدم ليكون مرادفًا للتخمين أو التكهن، والحدس فلسفيًا يعنى الانتقال من مقدمة أو مقدمات انتقالًا مباشرًا بلا واسطة، وهناك أنواع كثيرة من الحدس، تتفق جميعها فى أنه ضرب من المعرفة أو الإدراك المباشر، وقد عرض الدكتور فؤاد زكريا فى كتابه «التفكير العلمي» ص ص ٩٣ – ٩٥ أنواعًا من الحدس:
١- فهناك حدس حسى Sensible Intuition، نقصد به إدراكنا العادى بحواسنا. فحين أدرك الآن أن الورق الذى أراه أمامى أبيض اللون، يكون ذلك حدسًا، حسب المصطلح الفني، لأننى أدرك هذا الورق إدراكًا مباشرًا.
فأنا لم «أستنتج» أنه أبيض، ولم يقل لى أحد إنه كذلك، وإنما أراه بحواسى مباشرةً.
٢- وهناك حدس فى المجال العقلى يكون أساسًا للبرهنة والاستدلال، ويسمى حدسًا عقليًا Rational Intuition، ونقصد به وصول العقل مباشرةً إلى النتيجة المطلوبة، مثال ذلك الحدس الرياضى الذى تحدث عنه «ديكارت» وعلماء الرياضة، ويقصدون به الرؤية العقلية المباشرة للحقائق الرياضية التى بلغت من الوضوح والتميز ما يزول معها كل شك فى يقينها.
٣- وهناك حدس فى المجال العاطفي، وذلك حين يشعر المرء بالتعاطف (أو التنافر) مع أشخاص معينين من النظرة الأولى، دون أن يكون قد عرفهم أو سمع عنهم شيئًا من قبل. ومثل هذا الحدس، الذى يشبه ما يسمونه بـ«الحاسة السادسة»، قد يكون صوابًا أو خطأ، وقد تؤيده الخبرة والتجربة فيما بعد أو تكذبه.
٤- وهناك حدس صوفى، وهو نوع من الشفافية التى يحصل عليها السالكون من رجال التصوف، ويعتقدون أنها توصلهم إلى الحقيقة عن طريق ما يسمونه بالإشراق أو الفيض، وذلك حين يؤكد المتصوف أن لديه معرفة بالله، تختلف عن تلك المعرفة الاستدلالية المتدرجة التى نصل إليها عن طريق «البراهين» العقلية، فهو يشعر «بحضور» الله مباشرة فيه.
٥- وأخيرًا فهناك الحدس الفني، والذى يُطْلَق عليه عادةً اسم «الإلهام»، وأهم ما يميزه هو الظهور المفاجئ، والمباشر لفكرة العمل الفنى أو لموضوعه فى ذهن الفنان.