عزيزى البرادعي.. تلك رسالتى التى ظلت حبيسة أضلعى خمسة عشر عاما، تابعت خلالها مصيرى ومصير وطن آخر دُمر، لا أستطيع أن أجزم بأنك المسئول الوحيد، ولكن دون شك أنت شاركت فى تلك الجريمة، هل تعلم أن تقريرك الذى أكدت فيه أن العراق بها أسلحة نووية لم يكن قرارا سياسيا لتدمير العراق فحسب، بعد أن سلمته للأمريكان، بل كان قرارك خنجر طعن أمى وأودى بحياتها.
قد تلوميننى يا أمى وتتهميننى بالأنانية حال أن أرى ما حدث فى العراق وتشرد المئات بل الآلاف مجرد حدث شخصي، وتسبب فى رحيلك عن عالم الحروب وساسة قتل الإنسانية، ولكن يا أمى ربما لم تكونى الوحيدة التى لم تتحمل تلك المشاهد الدموية. فاعذرينى فأنا واحدة من آلاف الأبناء الذين فقدوا أمهاتهم بسبب سياسة اللاإنسانية، والتى ما زالت مستمرة. الكل يبحث عن مصالحه الشخصية والدول تخطط وتتآمر على بعضها البعض دون اعتبار لوليد فقد والديه، أو مسن أصبح بلا مأوي، فالدماء أصبحت مجرد ألوان تلطخ الأراضى والدموع اعتبروها سمة الضعفاء.
ما زالت كلماتها ترن فى أذنى «ذنبهم إيه الشباب اللى بيموتوا»، وأصبح سؤالك سؤالا كونيا عالقا ما بين السموات والأرض، يموت بعد انتهاء الأحداث ويعود ليطل مع كل قطرة دماء جديدة.
كانت دموع أمى والتى لا ولن تُمحى من ذاكرتى مثل نهر يسيل لسيدة لديها من المشاكل ما يكفيها، ومن الأحزان ما يُكتب فى كتب، فلم أكن أتحمل أن تكون السياسة طرفا جديدا يحلب دموع عينيها الكحيلة، ويمزق قلبها الدافئ، لم تكن أمى فحسب، بل كانت أما لكثيرين قرعوا باب قلبها وفتحت لهم القلب والبيت. لم تزر أمى العراق، ولم يكن لها أصدقاء عراقيون، حتى أجد مبررا لتلك الدموع، ولكنى اعتدت دموعها التى كانت تسكبها خلال الصلاة، ليس من أجل أولادها فحسب، بل من أجل المظلومين والمطرودين، ولكن دموعها على وطن آخر لم أفهمه، فبعد ساعات قليلة من متابعته الحرب فى العراق، طرق الموت باب قلبها، وبعد دقائق قليلة من نقلها للمستشفى جاء التشخيص ذبحة صدرية.. وكانت تلك النهاية. أعلم أن لكل شيء تحت السموات وقتا، للموت وقت وللولادة وقت، فلم أكن أطمع إلا فى أن تكون آخر ساعات من عمر أمى مكللة بالفرح أو على الأقل بالابتسامة، فكان يكفى ما مرت به من أوجاع، وما تحملت من مشقة، فهل كان يعلم «البرادعي» أنه كان سببا فى أن تكون آخر ساعاتها على الأرض بطلها دموع وحزن على أبرياء حصدتهم الحرب، وما زالت الترسانة دائرة تحصد أرواح الأبرياء.
.. رحلت أمى وتركت لى ميراثا لم أكن أعرفه، فخلال عمل حوار صحفى مع أحد المتطوعين بالعراق، لم أتمكن من ضبط نفسى وأنا أستمع لقصص مأساوية وحالة الشعب، شعرت بالحرج عندما انهمرت دموعى بعد أن فقدت السيطرة عليها، ولكن فى النهاية أدركت أنه الميراث.