سوف تظل مواجهة الإرهاب في مصر معطلة، طالما فشلنا في تفكيك مقولاته التي انتجها قديمًا وحديثًا، فخطورة الإرهاب ليست في نوعية الأسلحة التي يمتلكها وإنما في نوعية الأفكار التي يعتنقها، وقدرتنا على المواجهة تتحدد في امتلاكنا القدرة أولًا على تفكيك المقولات التي تُعطي الحياة للتنظيمات المتطرفة، ولديها مفعول السحر في تحريك اتباعها نحو القتل والتدمير، وقدرتنا ثانيًا على فهم هذه التنظيمات، فلا يمكن فهم أفكارهم دون فهم تركيبتها.
لدينا أزمتين في مواجهة الإرهاب، أحدهما تتعلق بالقدرة على تفكيك مقولات التطرف، والثانية تتعلق بالفشل في أن نصل بخطابنا «الوسطي» أو «التصحيحي» إلى المجتمع، وبالتالي الوقوف أمام انتشار أفكار التطرف والإرهاب، فبدلًا من أن نحاصرها حاصرتنا في كل مكان، حتى أن بيوتات العلم والثقافة والفن ذهب بعض أبنائها إلى طريق اللاعودة مع هذه التنظيمات، فلم يكن فشلنا في تسويق خطاب «الاعتدال» فقط وإنما في إنتاجه أصلًا!
من المقولات التي يعتمد عليها المتطرفون في خطابهم وتحتاج إلى ردود المؤسسة الدينية، ليست مجرد ردود سردية وإنما ردود مقنعة تأخذ منحى التفكيك، الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمر: «بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم»، فكيف نفهم هذا الحديث خاصة أن هذه التنظيمات تروج إلى أن الله بعث محمد داعيًا بالسيف إلى توحيد الله بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إلى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دعي بالسيف!
يحتج هؤلاء المتطرفون بأقوال للرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لطواغيت مكة: «استمعوا يا معشر قريش، أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح»، يعتبر هؤلاء أن الأحكام التي تعلو المسلمين اليوم هي أحكام الكفر، بل هي قوانين وضعها كفار مستندين في ذلك للآية في سورة المائدة «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».
تستند تنظيمات التطرف إلى فتاوى ابن تيمية في كتابة «الفتاوى» خاصة فتواه الشهيرة،: «كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة والمتواترة فإنها يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين، وأن تكلمت بالشهادتين فإذا أقروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة كذلك وإن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق وكذلك وإن امتنعوا عن تحريم الفواحش والزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة و...........»، أفتى ابن تيمية ومن أخذوا منه بضرورة قتال هؤلاء وفق ما فهموه من الآية الكريمة «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله»، والقتال هنا بسبب الامتناع عن واجبات الإسلام الظاهرة والمتواترة!
أفكار هؤلاء المتطرفين في الطرقات، يمكن للمتتبع والمتصفح على شبكة المعلومات الدولية «الإنترنت» أن يجدها بسهولة، بينما من الصعب أن يجد كتابًا أو كاتبًا رد على هذه الأفكار، فالجماعة الإسلامية في مصر التي راجعت هذه الأفكار غابت الكتب التي انتجتها عن المشهد، وتخيل القائمون أن دورهم اقتصر على التأثير في هؤلاء في لحظة ما دون أن يستثمروا ذلك للأجيال المتعاقبة، فما أنتجته الجماعة الإسلامية عندما شرعنت العنف منذ نشأتها في منتصف السبعينات من القرن الماضي، ما زال موجودا ومؤثرًا بينما غاب ما راجعوا من خلاله أفكارهم، ولم تتبنى جهة ما هذه الأفكار كي تواجه من خلالها.
هناك دور للمؤسسة الدينية في مصر، ولكنه ما زال غائبًا وغامضًا، وقد يسايرني الشك في قدرتها على تفكيك هذه المقولات، خاصة أن الأمر يستلزم فهمًا دقيقًا للعدو من أجل مواجهته بشكل صحيح، كل هذه المقدمات مهمة في المواجهة المفتقدة.
ما زلت أرى أن مواجهة الإرهاب ما زالت مقتصرة على المقاربة الأمنية والعسكرية فقط دون المواجهة الفكرية بمفهومها الشامل، ومازالت المؤسسة الدينية تفتقد للمشروع الفكري الكبير لتفكيك مقولات التطرف وفق خطة ممنهجة على المستوى الفكري والفقهي معًا، هذه الأدوار المفتقدة مسئولة عن توليد أجيال من المتطرفين لن تفيد معها الألة العسكرية، طالما أصل الداء ما زال موجودًا في الأفكار وما زال القصور في تفكيكها العنوان الرئيسي في تحديات المواجهة المفتقدة.