(4) جدلية العلاقة بين العلمانيين والإكليروس :
كانت لحظة قدوم الحملة الفرنسية (1798) الى مصر صادمة، عصفت بالمستقرات التى تشكل نسق حياة المصريين وقتها، ولم يتعامل معها المصريون على أنها رجس من عمل الشيطان، وإن لم يخل المشهد من هذا، واكتشف الأقباط الهوة التى تفصلهم عن الكنائس الأخرى، تأثراً بالمناخ السائد وفى حدود الأدوات والمعارف التى يتعاطونها، ودار صراع بين القادم والواقع، لم تبق الحملة فى مصر سوى ما يقرب من ثلاث سنوات، ذهبت لكن بقيت الصدمة والآثار، كانت الإرساليات التى وجدت طريقها مع بدايات القرن الـ 19 طرفا فاعلا فى تحفيز المصريين على الاستنهاض، واعادة قراءة واقعهم، وكان للشباب المصرى الذى تخرج فيها دورا بارزا فى تفاعلات النهضة، ولم تكن الكنيسة بعيدة عن ارهاصاتها.
وكان لاستنارة من يدير الكنيسة وقتها دوره فى حراك التغيير واللحاق بالعالم "المتمدين"، جاءت البداية عام 1872 م، حين دعا الأنبا مرقس مطران البحيرة بصفته قائمقام البطريرك وقتها بعض من شعب الكنيسة للمشاركة فى ادارة شئونها، تأسيسا على منهج الآباء الرسل تلاميذ السيد المسيح بحسب ما سجله الإنجيل المقدس فى سفر أعمال الرسل، فصل 2 ونصه (وفي تلك الايام اذ تكاثر التلاميذ حدث تذمر من اليونانيين على العبرانيين ان اراملهم كن يغفل عنهن في الخدمة اليومية، فدعا الاثنا عشر جمهور التلاميذ وقالوا لا يرضي ان نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد، فانتخبوا ايها الاخوة سبعة رجال منكم مشهودا لهم ومملوين من الروح القدس وحكمة فنقيمهم على هذه الحاجة، واما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة).
بلورت تلك المشاركة الحاجة إلى آلية تقننها وتنظيم يضبطها، الأمر الذى ترجم فى صدور الأمر العالى من الخديو اسماعيل بتشكيل ما عرف بالمجلس الملى لطائفة الأقباط الأرثوذكس، كانت اللحظة تجمع شباب مستنير وقائمقام مستنير وحاكم ايضًا مستنير وشغوف ان يجعل من مصر امتداداً لأوروبا، ومازالت آثاره تشهد له فى بنايات وسط القاهرة.
وفى 1/16 /1874 تشكل أول مجلس ملى وانتخب بطرس باشا غالى وكيلا له، حيث تنص لائحته على أن تكون رئاسته للبابا البطريرك، وبدأ المجلس فى أداء مهامه فى فبراير من نفس العام بعد أن اعتمد الخديو اسماعيل تشكيله وأصدر قراره (أمره العالى) بذلك.
وفى عام 1875 يختار المجلس الأنبا كيرلس الخامس للبطريركية، والذى رأى فى صلاحيات المجلس ما يمثل اعتداءً على سلطاته كبابا وبطريرك فحل المجلس، الذى لجأ بدوره للدولة، شاكيا ومعترضا ومستجيرا، حتى صدر الأمر العالى بتشكيل المجلس مرة أخرى فى 13 / 5 / 1883، ويعاد انتخاب بطرس باشا غالى مرة أخرى وكيلا له، لكن سرعان ما دب الخلاف مجددا بين المجلس والبابا حول الاختصاصات والصلاحيات، وهو الخلاف الذى ظل قائما بشكل متواتر على مدى تاريخ المجلس الملى إلا قليلا، كما سنوضح فيما بعد.
كانت مهام المجلس ـ وفقاً لنصوص لائحة تشكيله:
ـ النظر فى كافة المصالح الداخلية للأقباط .
ـ حصر أوقاف الكنائس والأديرة والمدارس وجمع حججها ومستنداتها، وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف وحفظ الأرصدة .
ـ إدارة المدارس والمطبعة ومساعدة الفقراء .
ـ حصر الكنائس وقساوستها والأديرة ورهبانها والأمتعة والسجلات الموجودة بهذه الجهات.
ـ النظر والفصل فى منازعات الزواج والطلاق وما يتعلق بما يعرف الآن بالأحوال الشخصية للأقباط .
لكن هذه اللائحة قوبلت برفض المطارنة وعلى رأسهم البابا البطريرك وأصدروا بيانا بهذا المعنى، أكدوا فيه أن هذا المجلس يعد مخالفة للأوامر والنصوص الرسولية (للمزيد يمكن للقارئ الرجوع للبحث القيم للأستاذ سليمان شفيق، فى كتابه : الأقباط بين الحرمان الكنسى والوطنى 1996 ـ الأمين للنشر والتوزيع).
وشهدت أروقة الكنيسة صراعات عديدة، بين المجالس الملية المتعاقبة والبطاركة المعاصرين لها، كانت تنتهى فى الغالب الى القطيعة بين الطرفين، وربما يكون السبب فى هذا المناخ الثقافى الذى لم يستوعب مفهوم الإدارة الحديثة، وتوزيع الأدوار وفق التخصص والقدرات، بل وقبل ذلك غياب النسق الديمقراطى عند البعض وعدم ايمانه به حتى فى الجانب الادارى، وسيطرة المفهوم السلطوى والذى يتحول فيه السلطان الأبوى إلى سلطة حاكمة تحاكى النظم السياسية الشمولية وقد تتفوق عليها، أو لنقل التحول من السلطة إلى التسلط، ويتعمق هذا فى غياب الفهم الصحيح لمفهوم الجسد الواحد ـ الكنيسة ـ عند كل الأطراف، والنظرة الإستعلائية عند طرف فى مقابل غياب روح البنوة عند الطرف الأخر.
وبعد مرور نحو مائة واربعين عاما (1872ـ 2013) نرى أننا بحاجة ماسة وملحة للتوقف والتدبر، فقد جرت فى نهر الكنيسة والأقباط والوطن مياه كثيرة وجارفة، وشهدت القضايا الكنسية متغيرات عديدة موضوعية ونوعية، بعضها يرجع لطبيعة التطور الطبيعى الذى شهده المجتمع المصرى، وبعضها بسبب التحولات السياسية خاصة فى حقبتى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وبعضها للتغير النوعى والكمى الذى لحق بإيرادات الكنيسة وابواب صرفها، والذى يلقى بظلاله على المجلس ودوره بل ومسماه، فضلاً عن بروز الدور التنموى الذى يمكن ان تضطلع به الكنيسة فى مرحلة فارقة، واستيعاب القيادة الكنسية الآن للتكامل بين مكونات الكنيسة، كل هذا يدفع باتجاه اعادة قراءة واقع ودور هذا المجلس.
فقط نشير الآن إلى أنه فى الدولة المدنية الحديثة وفى المجتمعات المتحضرة لا يستساغ الكلام عن "ملة" لأن التأكيد عليها والتمسك بها يعنى الإنتقاص من المواطنة، والنظر للأقباط باعتبارهم طائفة لهم شأنهم المنبت الصلة بالوطن، وقد يكون من الأنسب أن يسمى المجلس الشعبى الكنسى، أو مجلس الأراخنة، بحسب التعبير الشعبى القبطى والذى يعنى حكماء ورموز الاقباط .
لقد كان الهدف من إقامة المجلس وبحسب الوضع القانونى للبلاد وقتها إدارة شئون الأقباط المتعلقة بالكنيسة وأحوالهم الشخصية، ماذا حدث لصلاحياته عبر الزمن خاصة فى فترة حكم عبد الناصر، وماذا تبقى منها الآن وماذا عن الحاضر؟
هذا ما سوف نطرحه فى سطورنا القادمة.