الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رحل الأديب موسيقار المعنى المتدفق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرا ما تلهينا الدنيا وأحداثها عن الاستفادة والاستزادة من القامات الكبيرة التى تعيش بيننا، حتى تباغتنا حقيقة الموت وتوقظنا من غفلتنا بعد فوات الأوان.. هكذا جاء الخبر الحزين بوفاة الأديب والروائى الدكتور/أحمد يونس صاحب أحد أشهر الأعمدة الصحفية بجريدة الأخبار (بين قوسين)، والذى سافر إلى إسبانيا فى شبابه، وقام بتدريس اللغة العربية هناك، لتبدأ رحلته مع تعلم اللغة الإسبانية التى كانت طريقه للأدب الإسبانى، حيث أصبح بعدها من أهم المترجمين لأدب إسبانيا وأمريكا اللاتينية، وعاد إلى مصر بعد أن حصل على درجة الدكتوراه من جامعة مدريد.. وإلى جانب مؤلفاته وكتاباته الأدبية العديدة كان له دور اجتماعى أيضا، حيث يعد الأب الروحى لذوى الاحتياجات الخاصة، وصاحب فكرة الاحتفال بيوم الطفل المعاق، كذلك كان صاحب الدعوة للاحتفال بيوم وفاء النيل، والذى كان يسميه «يوم الاعتذار إلى النيل»، وأيضا صاحب دعوة الاحتفال بعيد القمح تحت شعار: «من لا يملك خبزه لايملك حريته».. وقد وصفه الكاتب الكبير الدكتور يوسف إدريس «بموسيقار المعنى المتدفق»، كذلك قال عنه الفيلسوف زكى نجيب محمود: «انتظرنا طويلا حتى يظهر كاتب بهذه القدرة».. فكما ورث من أبيه فقد البصر، ورث أيضا الموهبة الأدبية والروائية والرؤى الإبداعية، فهو ابن رائد الأدب الشعبى الدكتور/عبدالحميد يونس (١٩١٠- ١٩٨٨) الكاتب والروائى الذى فقد بصره وهو فى السادسة عشر من عمره، بعد أن تعرض لصدمة قوية فى جبهته أثناء لعبه لكرة القدم، ورغم ذلك استطاع إنهاء مرحلة البكالوريا -والتى تعادل الثانوية العامة آنذاك - وبعدها أراد الالتحاق بكلية الآداب، إلا أنه قوبل بالرفض بسبب فقدانه للبصر، ولولا وساطة عميد الأدب العربى الدكتور/طه حسين والذى كان أستاذا فى قسم اللغة العربية وعميدا للكلية فى ذلك الوقت، لما تمكن من تحقيق رغبته فى الالتحاق بالكلية بذات القسم، ثم حصل على الماجستير والدكتوراه، وأصبح أستاذا للأدب الشعبى الذى عشقه، وكتب عشرات المؤلفات التى تناولته، إلى جانب مئات المقالات والأبحاث فى الدوريات العامة والمتخصصة، وكان إسهامه الأكبر من خلال موسوعته الأدبية «معجم الفولكلور»، والتى ترجمت للغات عديدة، منها الإنجليزية والفرنسية والهندية واليابانية والإسبانية، وقد جمع فيها عددا هائلا من الأمثال والأغانى الشعبية والعادات والتقاليد والأشكال الأدبية الأخرى كالنكات والفوازير والحكايات الشعبية، وأصبحت مرجعا هاما للمتخصصين فى الأدب الشعبى فى العديد من الجامعات العربية والأجنبية..وكان يرى أن الأدب الشعبى هو ذلك الخط الموازى للأدب الرسمى، والذى يبرز دوره وتظهر فاعليته حين يقهر الشعب ويغلب على أمره، وحين يعجز الأدب الرسمى الموالى للسلطة فى أغلب الأحيان عن التعبير عن الوجدان القومى، فلا يجد الشعب مهربا لتحقيق ذاته والسخرية من أوضاعه القائمة إلا بالأدب الشعبى الغنى بالرموز والإيماءات والإشارات، والتى تهدف إلى تمجيد القيم الإنسانية والوطنية.. وبالإضافة لدوره الثقافى والأدبى كانت له بصمة إنسانية ومجتمعية كبيرة، إذ كان له نشاط كبير فيما يتعلق بذوى الاحتياجات الخاصة، وكان صاحب فكرة إنشاء «جمعية النور والأمل» للكفيفات.. وكما خاض الأب معارك شديدة للدفاع عن حرية الرأى والتعبير، كان الابن أيضا مؤمنا بذات القضية ومدافعا عنها فى أحاديثه وكتاباته، فكان يعبر عن قناعاته دون خوف، ويدافع عن القضايا الوطنية دون أن يحاول مغازلة السلطة، وكان يقول: «الوطن ليس فندقًا، إذا لم تعجبنا الخـــدمة فيه، بحثنا عن غيره..الوطن هو المكان الذى نعانى فيه بمحض إرادتنا».. فلم يكن يخشى فى الحق لومة لائم، حتى أنه كان من المهاجمين الشرسين للإخوان فى عز سلطتهم وتسلطهم.. وكان مطمئنا رغم كل ما كان يحدث لأنه كان يرى أنه نظام غبى وبالتالى سينتحر، وهو ما حدث بالفعل.. وكان يتميز بأسلوبه السلس ولغته العميقة الساخرة والساحرة..فعلى غرار مصر تتحدث عن نفسها كتب عن الجماعة الإرهابية:
«وقـف الخـلق ينظرون جميعًا.. كيف أشعـل النار فى الأرض وحدي.. فأنا العار والشنار والدمار سلاحي.. والغدر والذبح والنسف والخيانة جـندي..أنا قطع الرؤوس وجز الرقاب هوايتى الكبرى.. ورياضة التنكيل بالجثث أجمل الأشياء عندي..أنا تاج الخراب أينما وضعـت قدمي.. وفى الجينات أحمل السبى والسـلب والنهـب والتعدي.. انظر كم شخصًا فى عــز الشــباب أقتل يوميًا.. فأنا فى أكــل لحوم البشــر على مستوى التحدي..أنا الإخوان والنور وبوكو حرام والقاعدة وداعش.. وجماجم ضحاياى مكـدسة فى الزكــائب عندي.. شارب الدماء دراكولا سيد قطب كان أبي.. والحاخام حســن البنا رائد الإرهاب جدي..أمــن العــدل أن يطلقوا الأحرار منهم.. بينما أنا أفقد مع الأيام رشدي..أنا إن قدر الإله زوالي.. لن ترى مــصر تحمل الهم بعدي.. ما رمانى رامٍ وكان غريبًا.. من قديمٍ وكل الشعب ضدي»..رحم الله هذا الأديب والمفكر الكبير، الذى حاول أن ينير لنا بأفكاره وعلمه شموعا فى الظلام، ورغم ذلك كان يصف الشموع بأنها تعانى ازدواجا فى الشخصية قائلا: «إيمانى لا يتزعزع بأن كـل ظــلام العالم أضعف من أن يطفئ شـمـعـة.. لكن من المؤسف أيضًا أن هذه الشمعـة هى الأخرى أضعف من أن تضيء العالم».