تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يقول المناضل الأفريقى «نيلسون مانديلا»: كلنا خلقنا كى نشع ضوءًا، مثل الذى يشع من الأطفال، ولدنا لنشهد عظمة الله، التى تتحقق منا وبنا، هذه منحة لنا جميعًا، لا تخص أحد، وحين نمنح أنفسنا الفرصة، لنطلق لأنوارنا العنان، فإننا بشكل غير مباشر نعطى الآخرين مؤشرًا، ونفسح لهم مجالًا لاكتشاف نورهم، وجدوى بعثهم للعالم، وحين نتحرر من مخاوفنا الشخصية، فإننا نرسخ وجودنا المادى، ونحرر وجود الآخرين! إن أعظم مخاوفنا ليست حول «عجزنا»، بل فى حقيقة الأمر هو إدراكنا لمدى قوتنا! إنه «النور» وليس «الظلام» ما نخشاه! لذا علينا أن نسأل أنفسنا: من أنا؟! لأكون مشعًا أو موهوبًا أو حتى مدهشًا!
وجدت رباطًا عميقًا بين عبقرية تلك الفكرة وبين شخصيات المدرسة «السيريالية»، التى لم ألتقَ بها، لكننى أحببتها؛ ربما لأنها ساعدتنى على استرداد سلطات نفسى المفقودة، أو لجنون أفكارها المتحررة، التى تقدس قوى الخيال والحب والحرية، التى لا نعرف عنها شيئًا!
«السيريالية Surrealism» هى حركة ثقافية وأدبية وفنية، تَحَلَّلَت من واقع الحياة الواعية، آمنت بواقع أقوى فاعلية، أعظم اتساعًا، هو واقع اللا وعى أو اللا شعور، المسجون داخل النفس البشرية، الذى يجب تحريره، إطلاق مكبوته، تسجيله، يهدف ذلك الاتجاه إلى إبراز التناقض فى حياتنا أكثر من اهتمامه بالتعبير ذاته.
رائد السورياليين العرب هو الراحل «جورج حنين» ١٩١٤ - ١٩٧٣، الذى يعتبره الفرنسيون من أهم أدباء اللغة الفرنسية المعاصرين، وهو صحفى وكاتب وشاعر وناقد ومناضل مصرى عظيم، ظلت شمس خياله الساطعة هى المقدس الوحيد أو المنبع المتوهج الذى يغذى كل إبداعه. هو ابن صادق حنين باشا الدبلوماسى المصرى، انتقل مع والدته الإيطالية إلى فرنسا، حصل على شهادة الثانوية العامة، ثم التحق بجامعة «السوربون» العريقة فى باريس، حصل منها على ثلاث شهادات «ليسانس» فى الحقوق والآداب والتاريخ.
كتب الشعر والمقال الأدبى والسياسى، عالج الرواية، مارس الترجمة، احترف الصحافة، أتقن عدة لغات؛ الفرنسية، الإنجليزية، الإسبانية، الإيطالية»، وربطته علاقات مودة واحترام متبادل بكبار أدباء وفنانى عصره.
أذهلتنى قصة حبه السيريالى لإقبال العلايلى حفيدة أمير الشعراء «أحمد شوقى» منذ أكثر من نصف قرن، وموقف هذه الفتاة العظيمة، الأكثر بطولة من الجميع، حينما صفعت كل تقاليد المجتمع المصرى، وتزوجت «چورج حنين» الذى أسرها منذ أول لقاء بعبارته: لا أرى خطًا فاصلًا بين شَعْرِك وفستانك الأسود!
يقترن الفن «السيريالى» فى مصر بالثورة، لا بالإحباط، بالأمل فى التغيير، لا بالخضوع أو الاستسلام، يستلهم أفكاره من تراث الأساطير الشعبية ورموز «الفولكلور» الخلاقة، يستمد خطوطه من الألوان المصرية المميزة؛ «الطوبى الفرعونى»، «الأزرق الإسكندرانى»، «الأخضر» الذى يميز أكفان أولياء الله الصالحين وأضرحتهم.
تمنحنا «السيريالية» دروسًا فى الحياة ليس لها حدود، يكفى أن نتذكر صيحة «جورج حنين» المدوية ضد قوى التخلف والرجعية، التى اعترضت على «طه حسين» كوزيرًا للثقافة، فرد: نحن معك إلى أن نقضى تمامًا على كل القوى، التى تحاول أن تخلق لنا فى القرن العشرين عصورًا وسطى جديدة!
تلك الروح الصافية، التى كانت تتحرك بيننا، تقيم صروحًا من العشق السيريالى، تكره كل ما هو زائف وقبيح، احترقت كثيرًا من أجل ما تؤمن به، وعلى ضوء احتراقها تغير وجه الفن والأدب والفكر والحياة. ما أحوجنا الآن إلى هذه الوقفة الحاسمة فى مواجهة قوى التخلف والتطرف والإرهاب، التى تهدد كل القيم النبيلة والمعانى الجميلة فى حياتنا، التى لها وحدها حق الحياة.