تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
حكى «بيدبا» الفيلسوف لـ «دبشليم» الملك أنه اجتمع فى بعض الزمان ملوك الأقاليم من الصين والهند وفارس والروم؛ وقالوا ينبغى أن يتكلم كل واحد منا بكلمة تُدوَّن عنه على غابر الدهر، فقال ملك الصين: أنا على ما لم أقل أقدر منى على رد ما قلتُ.. وقال ملك الهند: عجبتُ لمن يتكلم بالكلمة؛ فإن كانت له لم تنفعه، وإن كانت عليه أوبقته.. وقال ملك فارس: أنا إذا تكلمت بالكلمة ملكتنى، وإذا لم أتكلم بها ملكتها.. وقال ملك الروم: ما ندمت على ما أتكلم به قط، ولقد ندمت على ما تكلمت به كثيرًا.
دعونا من خلال هذه السطور نُحلِّق بعيدًا، ونعود بالزمن إلى الوراء نحو ألفى عام أو يزيد، نعيش مع قصة كتاب كُتب فى تلك الحقبة الزمنية الغابرة، وحُكِى على ألسنة الحيوانات والطير، إنه كتاب «كليلة ودمنة» أحد روائع الأدب العالمى.
كان دبشليم ملكًا على الهند فى عصر ذى القرنين الذى ملك الأرض غربًا وشرقًا، فهو بعد أن فرغ من محاربة ملوك ناحية المغرب، ودانت له مصر وغيرها، توجه إلى بلاد الشرق من أجل محاربة ملوك فارس والصين والهند، وقد استطاع السيطرة على الهند بعد معركة حامية الوطيس، ثم استخلف عليها أحد رجاله، ولكن أهل الهند لم يخضعوا له وخلعوه، وملَّكُوا عليهم دبشليم أحد أبناء ملوكهم.. ولكن دبشليم لما استوثق له الأمر، واستقر له الملك، عبث بالرعية واستصغر أمرهم وأساء السيرة فيهم.
وكان فى زمان دبشليم رجل فيلسوف من البراهمة يُـقال له بيدبا، رجل يُعرف بفضله، ويُرجع فى الأمور إلى قوله، ولما رأى بيدبا أمر الملك وظلمه للرعية؛ أراد أن يرده إلى العدل والإنصاف، فذهب إليه وأخبره أنه يريد نصحه، فقال له الملك: تكلم كيف شئت فإنى مُصغٍ إليك، فلما انتهى بيدبا من مقالته، وفرغ من مناصحته، أوغر صدر الملك؛ فأمر بحبسه.
وحينما زال عن الملك الغضب، وراجع نفسه، وتذكَّر ما قاله له بيدبا، قال فى نفسه: إنى أخطأت فيما صنعته معه، وما حملنى على ذلك إلا سرعة الغضب، لقد جاءنى ناصحًا، ولكننى عاملته بنقيض ما يستحق، فأخرجه الملك من سجنه، وأرسل فى طلبه، وقرَّبه منه، واستمع إليه، حتى تحقق العدل فى المملكة، فرغبت فيه الملوك الذين كانوا فى نواحيه، وأحبه رعيته وأهل مملكته.
ثم أمر الملك بيدبا أن يؤلف له كتابًا يمزج بين الجد والهزل واللهو والحكمة، فألَّف بيدبا كتاب كليلة ودمنة، وجاء الكتاب فى بنية سردية مشوقة، فهو عبارة عن حكايات تُروى على ألسنة الطير والحيوانات، فى ظاهرها المتعة والتسلية وفى باطنها الأخلاق والحكمة والسياسة، وإذا كان بيدبا قد استخدم الحيوانات والطيور كشخصيات رئيسية فى الكتاب، إلا أنها ترمز فى الأساس إلى شخصيات بشرية، فحكايات الكتاب ترمز إلى العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
وقد تُرجم هذا الكتاب بعد ذلك إلى اللغة الفارسية فى القرن السادس الميلادي، فحينما علم كسرى فارس «أنوشيروان» بأمر الكتاب وما يحتويه من المواعظ، أمر الطبيب «برزويه» الذهاب إلى بلاد الهند ونسخ ما جاء فى ذلك الكتاب ونقله من الهندية إلى الفارسية.
ثم تُرجم الكتاب من الفارسية إلى العربية فى القرن الثامن الميلادي، الموافق للقرن الثانى الهجري، على يد عبدالله بن المقفع، الذى كان للكتاب أثر بالغ فى نفسه؛ إذ رأى تشابهًا بين الحياة السياسية والاجتماعية للملك دبشليم وبين الخليفة العباسى المنصور الذى كان شديدًا مع مخالفيه؛ فأراد أن ينصحه بشكل غير مباشر.
وابن المقفع قد استحدث بعض الأبواب فى الكتاب لم تكن موجودة فى النسخة الفارسية، كما أنه أضاف بعض القصص وعدَّل فى قصص أخرى بأسلوبه، ومن خلال الترجمة العربية انتقلت كليلة ودمنة إلى الأدب العالمى، حيث فقدت النسختين الهندية والفارسية... وللحديث بقية.