انتهج والدى فى تعليمنا رافدا لدور المعلم حينما كنا تلاميذ فى أول صفوف الدراسة، أن يُبسط لنا معنى ما ندرُس من مفردات منهجية بإعمال مخيلتنا أو بمقاربة لما يحيط بنا معتمدا الحكى والسرد، حين اعتماد مواقف بعينها استنادا وتدليلا، أتذكر أنه حين أراد تعليمنا معنى الكسور من نصف وثُلث ورُبع استأذن والدتى فى قطع ما سنستهلكهُ من خبز فى وجبة الغذاء ليُمثل الدرس لنا فى شكل حدوثه، فوضع قطع الخبز الطويلة وصار يقسمها نصفا وربعا وثلثا وهكذا قام باختبارنا فيما سيقصه لتصير (كسورا) بحجة أن لكل منا نصيبه عند تناول غذائنا، إلى يومنا هذا لم أنس هذا الدرس وظل ماثلا أمام عيني، أما عن عجزى كتلميذة عن التمييز بين الضم والفتح والكسر فأتذكر حله عنده، صورة وجهه وهو يضم فمه، ثم يفتحه، ثم يكسر فكه السفلى تواليا مدللا بحروف على تلك الحركات، ما تزال مخيلتى إلى يومنا هذا تستعيدُ وجهه، ومنذها أنقل ذلك الدرس إلى أطفال من أعرف، نماذج كثيرة لما انتهجه معلما لنا جعلت من جلستنا معه رفقة كُتبنا موعدا مُحببا يرسمه لنا فور عودتنا من المدرسة.
وفى ظنى أن إعمال المخيلة غائبٌ عن طرائق تعليمنا، والمخيلة قدرةٌ عقلية يتمتع بها أبناؤنا مبكرا ويجرى تعطيلها بل وإزاحتها قصدا إذ تصير تُهمة معيبة فى شخصه مستقبلا!، وعلى ذلك مبكرا نُغيب أسئلتهم الفضولية إيجابا الباحثة عن إجابة عن كل ما يدور حولهم، بل لا نطرح مقدمة لما نفرضه عليهم من معلومات ومعارف نسبر فيها غور ما يُلفتهم ويستثيرهم ويشغل بالهم، المخيلة كانت مفتاح مكتشفين ومخترعين من أرشميدس الصارخ وجدتها، إلى جناحى بن فرناس، وحتى تفاحة نيوتن وغيرهم كثير، لكننا كالحمار يحمل أسفارا نحفظ قصصهم ونكررها على أبنائنا ولا ننتبه إلى أننا نُقصى عمدا طاقة مخزونة بإمكانها أن تنجز الكثير إذا ما توهجت واشتعلت، فمتى سنعلم أبناءنا ركوب الخيال؟
وفى يومنا هذا تأخذنى الرأفة كثيرا من شكوى أبنائنا من التلاميذ بالصفوف التعليمية الأولى حين إعلان نفورهم من منهج الحساب واللغة العربية، وما يزيد الطين بلة ما تحكيه الأمهات ومنهن زميلات مهنة التدريس عن حل مجحف بإلزام التلاميذ بالحفظ عن ظهر غيب دون فهم واستيعاب قبلا، يردفه إلحاح بواجبات مكثفة تزدحم بها ساعات يومهم عقب عودتهم من يوم دراسى كثيرهُ تلقين وتحفيظ أيضا.
وبالمقابل ظلت شكاوى المعلمين دائمة وملحة فى بحثها اليائس عن حلول نتاج ضعف تحصيل طلابهم فى موادهم الرياضية كما اللغوية، وقراءة راصدة فى شهادات وصحائف أبنائنا تكشف عن تلك المعضلة التى أدى تراكمها إلى عزوف وهروب بعضهم من إكمال مشوارهم الدراسى والاكتفاء بالحصول على الشهادة الإعدادية أو الابتدائية بشق الانفس!.
هى معضلة تعليمية تربوية سائدة إذن تستلزم الوقوف عندها، كيف نجعل من علاقة التلاميذ بمفردات منهجهم علاقة تواصل شغف ومحبة لعلوم ومعارف؟ كيف نرغبهم فى الاستزادة وليس مجرد درس مفروض يجبرون على حفظه والاختبار به لأجل شهادة يوقعها أولياؤهم فى نهاية كل سنة دراسية؟ وهكذا دواليك إلى حين مغادرة مقاعد الدروس ثم نتأسى على مخرجات نتعامل معها فى حياتنا اليومية لا تجيد كتابة جملة مفيدة ولا حل تمرين رياضى يعتمد إعمال الذهن واعتماد استنتاجات.
وعود على بدء وكون التأسيس لما له علاقة بالعلوم والمعارف نشرعهُ من مرحلة رياض الأطفال حين يغادرون بيوتهم ويدخلون بيتا جديدا بابه ينفتح على معلم ورفاق صف فإنه من الأولى أن تكون العتبة المبتدأ إتاحة الفرصة للتعبير عما يجول بأذهانهم، ما سينعكس فى لوحة يرسمونها برغبتهم موضوعا وألوانا، فى حكاية يكملون قصها بل أن نجعلهم يخترعون قصتهم، أن نختبر علاقتهم بالأشياء القريبة من محيطهم وفق مُخيلتهم، نظرتهم لها وما يأمُلون به، ولننطلق بهم راكبين الخيال.