ظلوا يترقبون الوضع من بعيد بعد أن التزموا الصمت، فإذا انتصر النظام، وانصرفت الجماهير من الميادين.. عادوا إلى أماكنهم فى الصحف والقنوات، وإذا سقط النظام.. قفزوا من المركب واعتلوا آخر، وبعد خطاب التنحى، الذى يمر عليه اليوم سبع سنوات.. قفزوا من المركب ليلحقوا ببقايا المتظاهرين فى الميدان، نافقوهم.. وهتفوا معهم ضد نظام مبارك الذى سقط، وعادوا إلى برامجهم وصحفهم مرتدين ثوب الثوار، وفى يد كل منهم عدد من مشاهير الميدان، احتموا فيهم، واخترعوا لهم مسميات مثل الناشط السياسى، والحقوقى والخبير الاستراتيجى، وزايدوا بهم على أصحاب القنوات بعد أن استخدموهم فزاعة؛ لتخويفهم، وبعضهم أصبحوا كتاب أعمدة فى الصحف القومية، والحزبية والمستقلة، وما بين يوم وليلة..تحول من أكلوا على مائدة مبارك وتباروا فى التمسح به وبالقريبين منه إلى أعداء له، وإمعانًا فى نفاق رواد فوضى يناير.. اخترعوا مظلوميات ليؤكدوا أنهم عانوا من مبارك ونظامه.
ما زالت تفاصيل هذا اليوم حاضرة، تستدعيها الذاكرة كلما حلت الذكرى، كنت هناك.. فى تلك الغرفة، التى تمكننى من نقل ما يجرى فى الشوارع والميدان على الهواء، وكانت الكاميرات خير حافظ لتلك التحولات الفجة؛ لم أكن قريبًا من نظام مبارك حتى لا يفهم البعض أننى أدافع عنه، ولم أسع للتقرب منه، ولا من الأنظمة التى أعقبته، ربما لأن مكوناتى ليس من بينها تلك القدرات التى تؤهلنى لذلك، فقط.. أمتلك أدوات المهنة التى جعلتنى قريبًا من الجماهير من خلال برامج كانت الأكثر تأثيرًا وموضوعية، إذًا..استحضار مشاهد يوم التنحى ليست دفاعًا عن نظام سقط، لكنها درس لا بد من التذكير به للاستفادة منه حتى لا يظن من يأكلون على كل الموائد أن تحولاتهم التى تصيبنا بالغثيان طوتها الأيام، وبالتأكيد سيأتى اليوم الذى نذكر فيه أسماء من نافقوا ثم تحولوا، ثم نافقوا ولديهم الاستعداد للتحول فى أى وقت، ومع أى شخص، خاصة أن النفاق أصبح مهنة يتكسب منها البعض، مثلما يتكسب آخرون من المعارضة، فيهيلون التراب على كل إنجاز كبر حجمه أو صغر، ولا يرون إلا بأعين من يمولهم.
كنت هناك.. فى نفس الغرفة، أوجه الكاميرات لترصد مشاهد يوم التنحى، ومعها ترصد مشاهد يوم تنحى فيه البعض عن مبادئه وتلون كالحرباء ليشتم مبارك ونظامه، ويعظم الإخوان وحركات الفوضى، غير عابئ بأرشيف من النفاق، وكيف يعبأ وقد ألقى برقع الحياء على أعتاب ميدان لم يدخله إلا يوم سقوط النظام، ففى الكادر أرى من الغرفة هذا الإعلامى الذى اختفى عشية ٢٥ يناير، حيث اصطحب أسرته إلى مكان غير معلوم، وظل يراقب الوضع حتى إعلان التنحى، ثم هرول إلى ميدان التحرير ليهتف مع المتظاهرين، ثم اصطحب بعض من صناع «المولوتوف»، إلى مطعم كبير وتناولوا معه العشاء، سألت أحد القريبين منه أين كان طوال الفترة الماضية؟ فأكد أنه عائد لتوه من الجونة، عندما علم بالتنحى وما زالت أسرته هناك.
ومن الكادر.. يقفز هذا الوجه الذى اعتدته مدافعًا عن مبارك ونظامه، ليس هذا فحسب، فقد كان ضيفى فى كل الحلقات التى أستضيف فيها المعارضة ليتولى هو مسئولية الرد على الاتهامات التى توجه لحكومة مبارك، فجأة تحول الرجل يوم التنحى إلى معارض طالما عانى من نظام مبارك، بل أنه هاجمنى عندما استضفت الصحفية نجاة عبدالرحمن، التى دخلت دهاليز حركة «٦ أبريل»، وسافرت مع بعض أعضائها إلى صربيا؛ للتدريب على كيفية تغيير الأنظمة، يومها وقبل التنحى بأسبوع شرحت نجاة تفاصيل عن مؤامرة؛ لنشر الفوضى فى مصر، وأكدت أن ميدان التحرير به عناصر من مخابرات أجنبية تعمل ضد مصر، وكان ما قالته سباحة ضد التيار فتح عليها وعلينا حربًا من الفوضويين من خلال شبكات التواصل الاجتماعى، وفى نفس اليوم الذى استضفتها به اتصل بى هذا الإعلامى؛ ليعنفنى لأننى استضفت صحفية تطاولت على الثوار الأطهار فى ميدان التحرير، وتناسى أنه كان يهاجم الأطهار ويصفهم بالمخربين ولم يتحول إلا بعد خطاب التنحى، والغريب أنه يقول حاليًا فى برنامجه ومقالاته ما قالته الصحفية نجاة عبدالرحمن منذ سبع سنوات.
من الغرفة كنت شاهدًا على تحولات يوم التنحى، مشاهد وشخصيات تستدعيها الذاكرة كلما حلت الذكرى، نشير إليهم من بعيد، لا لشىء إلا لأنهم ما زالوا يتصدرون المشهد.