• هذا ليس اتهامًا أو انتقاصًا أو تقليلًا من قدر وقيمة ودور الجهاز المركزى للمحاسبات والذى مضى على تأسيسه نحو ٧٢ عامًا وواحد من أعرق وأقدم أجهزة المحاسبات فى المنطقة العربية بل والعالم، وتولى رئاسته خلال هذه الفترة عدد من قيادات مصر بلغ عددها ١٦ رئيسًا للجهاز وسيدة واحدة فقط، وأحدهم تولى رئاسة الحكومة المصرية، وهو المرحوم الدكتور عاطف صدقى، والذى تولى رئاسته خلال الفترة من ١٩٨١ حتى ١٩٨٤.
• وجهاز المحاسبات كان يتبع مجلس الشعب ويقدم تقاريره الدورية والسنوية حول نتائج الرقابة المالية على أعمال الجهات الحكومية والشركات، التى تساهم فيها الحكومة والجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية والمؤسسات الصحفية وتقييم الأداء ومدى الالتزام بما ورد فى تأشيرات الموازنة العامة للدولة، وكثيرًا ما شهدت قاعة مجلس الشعب فى سنوات ماضية مناقشات ساخنة ونارية حول هذه التقارير، التى كانت بمثابة خنجر فى ظهر بعض الوزراء.
• وعندما تولى الدكتور كمال الجنزورى رئاسة الحكومة، واشتد الصراع بينه وبين مجلس الشعب والحزب الوطنى الحاكم وقيادات الحزب واستشعر بأن تقارير جهاز المحاسبات تشكل خطرًا كبيرًا على حكومته قرر إدخال تعديلات على قانون الجهاز، ونقل تبعية الجهاز من مجلس الشعب إلى رئاسة الجمهورية حتى ينزع سلاحًا مهمًا كان فى يد مجلس الشعب، ويمنع محاولات إحراج وزراء حكومته، وأن يطلع على تقارير الجهاز قبل وصولها لمجلس الشعب باستثناء التقارير الخاصة بالرقابة المالية السنوية على الموازنة العامة للدولة والحسابات الختامية.
• وفى ظل الدستور الحالى دستور ثورة ٣٠ يونيو أصبح جهاز المحاسبات ضمن الهيئات المستقلة، ويعين رئيسه بقرار من رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس النواب على قرار التعيين، ويتولى رئاسة الجهاز حاليًا أحد رجال القضاء والنيابة، وهو المستشار هشام بدوى الذى يسير على نهج ومنهج المستشار الجليل جودت الملط والذى تولى رئاسة الجهاز خلال الفترة من ١٩٩٩ حتى ٢٠١١، عندما أطاحت جماعة الإخوان الإرهابية به، وقررت تعيين المستشار هشام جنينة، المحسوب على جماعة الإخوان.
• ورغم أن جهاز المحاسبات يمارس دوره على أكمل وجه فى الرقابة المحاسبية المالية والقانونية ومتابعة تقييم الأداء ومدى تنفيذ خطط الوزارات والجهات الحكومية فإن صدى هذا الدور الرقابى المهم لا يكاد يشعر به الرأى العام المصرى خاصة أن غالبية تقارير جهاز المحاسبات، التى ترسل إلى مجلس النواب ولجانه، والتى تصل إلى نحو ٥٠٠ تقرير سنويًا تظل حبيسة الأدراج، ولا ترى النور لمناقشتها وتفعيل ما يرد بها من توصيات.
• بل إن المستشار هشام بدوى، رئيس جهاز المحاسبات، منذ تعيينه فى عام ٢٠١٦ لم توجه إليه أى دعوة برلمانية من المجلس أو إحدى لجانه للحضور للحديث وإلقاء بيانات حول دور ومهام الجهاز فى كشف الفساد والمخالفات المالية والإدارية ومدى التزام وزراء الحكومة بالإنفاق المالى الصحيح حتى يضع النقاط فوق السطور، فيما يتردد فى أوساط الرأى العام والإعلام حول تراجع دور جهاز المحاسبات فى محاربة الفساد المالى والإدارى بأجهزة الحكومة والمحليات.
• والرأى العام المصرى يتابع يوميًا النجاحات المتتالية لجهاز الرقابة الإدارية فى توجيه ضربات للفساد وإسقاط المفسدين ومحاصرتهم ورد الكثير من المبالغ المالية لخزانة الدولة بدلًا من جيوب المفسدين وحرامية المال العام، بينما فى المقابل ما يقوم به جهاز المحاسبات لا يعلم به الرأى العام من قريب أو بعيد بل إن التقارير التى يعدها ويرسلها لمجلس النواب مرفوع عليها شعار ممنوع الاقتراب والتصوير رغم أن المبالغ التى يرصدها الجهاز فى تقاريره بالمليارات أحيانًا، وليس بالملايين.
• ولعل تقريرًا واحدًا فقط عن أعمال الرقابة المالية على جهاز إدارة المخلفات بوزارة البيئة تضمن وقائع فساد تستوجب، إما التحقيق القضائى أمام النائب العام وإما تشكيل لجنة برلمانية لتقصى الحقائق، ومنها على سبيل المثال إنفاق مبلغ ١٢ مليون جنيه لجمع ٣٠٠ ألف طن قش أرز بمحافظات الوجه البحرى دون وجود مستندات دالة على صرف هذا المبلغ فى الغرض المخصص له.
• وكشف تقرير جهاز المحاسبات عن تأخر إضافة ٣١ سيارة نيسان دوبل كابينة، تبلغ قيمتها نحو ٥ ملايين جنيه لمدة تزيد على ٦ أشهر ما يؤكد ضعف إحكام الرقابة على هذه السيارات، كما تم رصد مخالفات قيمتها ٣٣.٣ مليون جنيه فى العقود المبرمة بشأن منظومة المجمع السكنى للمخلفات وعدم العناية فى اختيار الشركات المنفذة لأعمال رفع المخلفات بحى إمبابة وانعدام الرقابة على هذه المنظومة ما يتسبب فى ضياع ملايين الجنيهات.
• فجهاز المحاسبات يقوم بما يجب عليه ويمارس دوره الدستورى والقانونى، ويعد تقارير تتكلف أموالًا طائلة، ويقدمها لأصحاب الشأن وسلطة الرقابة الأولى فى مصر، وهى السلطة التشريعية فإن عدم تفعيل دور الجهاز ومناقشة تقاريره تحت القبة ونشر نتائج أعماله على الرأى العام وإلغاء شعار ممنوع الاقتراب والتصوير لتمكين الصحافة والإعلام من نشر هذه التقارير يجعل الجهاز يؤذن فى مالطة.