يقول الفيلسوف الفرنسى ديكارت: «إن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس» بمعنى أن العقل هو القاسم المشترك بين البشر، وأن لكل امرئ نصيبا من العقل. ولكن هل ما ذكره ديكارت صحيح؟! هل حقًا أن البشر متساوون فى امتلاك الحد الأدنى من العقل؟ ألا يوجد من يحسبه الناس عاقلًا، وهو فى حقيقة الأمر معدوم العقل؟ ألا يوجد أناس يسلكون كأن لا عقل لهم؟! ألا يوجد من يتصرف على نحو يخجل منه أحقر حيوان؟!
انظر مثلًا إلى من تحلَّقوا حول جثة المناضلة الكردية «بارين كوباني» ومثلوا بها، أو من نفذوا مذبحة جامع الروضة بالعريش؟! أو من ذبح المصريين فى ليبيا، أو من قام بإحراق الطيار الأردنى حيًا، أو مَنْ تمارس نكاح الجهاد، أو من يغطى عضوه الذكرى برقائق من الصلب – قبل أن يفجر نفسه - حتى يحتفظ به سليمًا لاستعماله حين لقائه بالحور العين فى الجنة!!
هل أمثال هؤلاء يمتلكون ذرة عقل؟ هل توجد خلية واحدة صالحة للعمل فى مخ أى واحد منهم ؟! هل هذا أو ذاك يمتلك عقلًا؟ هل ما زالت مقولة ديكارت تنطبق على أمثال أولئك الكائنات؟!
نحن فى مسيس الحاجة إلى إعادة فحص بنية العقل البشري، كى نفهم مصدر الأفكار الكامنة داخل رءوسنا، من أين جاءت؟ وكيف تكونت؟ وهل نحن الذين نملكها أم هى التى تملكنا؟ وهل توجد أفكار فطرية؟ أم أن كل أفكارنا مكتسبة؟
الحقيقة التى يجب أن نقر بها هى أن أفكارنا تحركنا!!
إذا كنا نمتلك أفكارًا جيدة فسوف نسلك على نحو طيب، أما إذا كانت الأفكار التى داخل رؤوسنا رديئة فسوف نسلك على نحو سيئ.
من هنا تأتى أهمية فحص ما داخل رؤوسنا من أفكار، ولنبدأ بعرض ما ذهبت إليه المدارس والمذاهب الفلسفية المختلفة فيما يتعلق بمبحث المعرفة:
مبحث المعرفة: أو ما يُعْرَف بالإبستمولوجيا Epistemology، يدرس المعرفة الإنسانية بصفة عامة وحدودها، والعلم الإنسانى بصفة عامة من حيث شروط الصواب والخطأ فيه، أو الطرق المؤدية إلى اكتساب المعرفة.
والواقع أن تحليل «المعرفة الإنسانية» من شتى نواحيها، يوشك أن يكون هو الشغل الشاغل للفلسفة منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، أو هو على الأقل أهم مشكلة تناولتها الفلسفة فى تلك الفترة من تاريخها، ولو تتبع مؤرخ ليرى كيف نشأت مشكلة المعرفة، ثم كيف نمت وتطورت وتعددت فيها الآراء وتشعبت المذاهب، لوجد نفسه متتبعًا لتاريخ الفلسفة فى عصرها الحديث، بل إن فى وسعنا أيضًا أن نقول إن نظرية المعرفة تحتل فى نظر كثير من المفكرين مكانة الفلسفة ذاتها، حتى أن البعض يرى أنها هى الفلسفة.
والمقصود بالمعرفة، المعرفة أيًا كانت وسواء أكانت عقلية أم نقلية، علمية أم ميتافيزيقية، أعنى المعرفة فى عمومها، ومثل هذه المعرفة تتضمن دائمًا الإشارة إلى عنصرين متقابلين ومتتامين: العنصر الأول هو الشخص العارف أو الذات العارفة (الذات المدرِكة)، والعنصر الثانى الشىء المعروف (الموضوع المدرَك)، إذ لا بد أن يتوافر فى كل معرفة ذات وموضوع. فإذا أنت وقفت أمام شجرة - مثلًا - تتطلع إليها وتتأملها، فأنت «الذات» والشجرة هى «الموضوع»، أنت «الذات المدرِكة» والشجرة هى «الموضوع المدرَك».
إن طرفى أية معرفة هما الذات والموضوع.
وحصر الكلام أو النظر فى الأشياء المعروفة، أى فى الموضوعات يؤدى إلى تكوين معارف مختلفة باختلاف الموضوعات، وذلك مثل المعارف التى تشير إليها العلوم المختلفة أو الموجودات التى تتناولها الميتافيزيقا كالألوهية والنفس والعالَم، لكن يمكن حصر النظر فى الذات العارفة أيضًا لنركزه على طريقة رؤيتنا أو معرفتنا بتلك الموضوعات.
فى الحالة الأولى نفكر فى إطار «نظرية للوجود»، وفى الحالة الثانية فى إطار «نظرية للمعرفة».