لا يمكن الاكتفاء بالمقاربة الأمنية كطريق واحد لمواجهة الإرهاب دون الاعتماد على الثقافة فى تهذيب المشاعر وتفكيك البنية الأساسية لعقول الإرهابيين، فالثقافة غذاء العقل وحياة الروح التى تقف أمام أى أفكار شاذة تعيق الفكر الإنسانى عن الانخراط فى الحياة الطبيعية أو التفكير وفق منظومة العقل التى لم يُصيبها خلل ولم تتعرض للعبث.
المدخل الإنثروبولوجى الثقافى لمواجهة الإرهاب تصور منطقى، محسومة نتائجه، ولكنه غائب عن القائمين على معادلة مواجهة التطرف، خاصة فى مجتمعاتنا العربية، ندرك أن التطرف يعزف على وتر شذوذ التفكير ضمن آلة واحدة عقمت على فهم مدركات الحياة، ويستغل مفهوم التفسير غير المنطقى للنصوص الدينية فى غياب الثقافة التى تُرشد العقل وتُعطيه مساحات أكبر من التفكير دون الانزلاق إلى آفة الانغلاق التى تؤدى حتمًا إلى التطرف بصوره المختلفة.
الثقافة هى القوة الناعمة لمواجهة التطرف والعلاج الذى غاب عن الطبيب رغم قوة أثره، علاج له مفعول لمن أصابه المرض، فتطرفت مشاعره حتى بات تفكيره معبرًا عن هذه الحالة، قد يكون من السهل علاج انحراف التفكير وتقويمه ولكن من الصعب تهذيب المشاعر الجانحة والتى لا يمكن علاجها إلا بفنون الثقافة المختلفة.
من أهم دواعى انتشار التطرف فى مجتمعاتنا غياب المؤسسات الفاعلة بداخله سواء الدينية، فنجد تفاسير خاطئة للنصوص وتأويلات خارج النص، فضلًا عن الفهم الرجعى للدين بما يُخالف صحيح الرسالة دون رد من تلك المؤسسات، فكما غاب الدين غاب التجديد، وظل الناس أسرى تفسيرات غير صحيحة ورؤى تصب فى خانة التطرف، وما جرى على المؤسسات الدينية جرى على المؤسسات الثقافية التى أصابها الجمود والتكلس، فما عادت تُفكر أمام الفكر المتجمد، وما عادت قادرة على تغيير الواقع بأدواتها التى تُخاطب القلب والعقل فى آن واحد، فأدى الخطاب الثقافى إلى مزيد من الانعزال دون تجديد فى خطابه أو رؤيته للمواجهة.
نحتاج لمراجعة جذرية للخطاب الثقافى، كما أننا نحتاج لوجود هذا الخطاب الذى غاب عن حياتنا، وكما غابت الثقافة غاب تأثير أصحابها الذين قرروا ممارسة العزلة الاختيارية التى وضعوا أنفسهم فيها، فأصبحت البيئة مهيئة لممارسة التطرف بل ومنتجه لهذا الخطاب الردىء؛ الثقافة مرادف الحياة التى لا يمكن الاستغناء عنها، عندما تغيب تختفى الحياة وتنتشر أمراضه التى تضرب الجسد بأكمله فيصبح عليلًا غير قادر على التفكير.
قال لى أحد رموز التطرف ذات يوم،: «عندما سمحنا لأنصارنا وأتباعنا بكتابة الشعر والرواية أخذنا قرارنا بمراجعة أفكارنا»؛ كان هذا الرمز ممن أصلوا الأفكار التى كانت وقودا للجماعات المتطرفة لعقود طويلة، ولكنه لمس غياب الثقافة عن البيئة التى خلقت هؤلاء المتطرفين الذين أثر فيهم، كما أنه لمح لدور الثقافة فى تهذيب مشاعر أنصاره وتهيئتهم لمراجعات فكرية طلقوا فيها العنف، فممارسة الثقافة تُساعد على النقاء والصفاء، وهى أداة لذلك ولا بد وأن تستخدم لهذا السبب، لا أن ننتظر من أصابه شذوذ فى التفكير إلى أن يُصبح صحيحًا حتى يمارس الثقافة.
خرائط التطرف الذهنية مفهومة ومعروفة، ومواجهتها لا يكون إلا من خلال خرائط ذهنية أخرى للمعرفة قادرة على تفكيك الأفكار الجامدة والمقولات التى تتشح بالتطرف وتتخذ منها ستارًا، التعامل مع هذه الخرائط يستلزم خرائط أخرى لفهمها أولًا وتفكيكها ثانيًا، الشذوذ الفكرى مواجهته لا تكون إلا بالمعرفة الصحيحة، وما لا يمكن التأثير فيه بتصحيح المفاهيم الدينية تقوم الثقافة بدورها فى تصحيح مشاعره وضبط بُوصلة عقله بجميع أنواع الفنون والثقافة والمعرفة.
نريد تجديدًا ثقافيًا غير مستهلك، مع حرية فى إطلاق الإبداع ضمن سياسات ثقافية واضحة وصحيحة، خطاب ثقافى يستجيب لتطورات العصر ويُلبى احتياجات الإنسان فى نفس الوقت، ويعالج التشوهات التى أصابت منطق التفكير والحكم، التطرف بدايته فى غياب الثقافة والمعرفة ونهايته لا تتجاوز هذا المفهوم التوعوى للمعرفة التى انحدر حالها حتى أصبح المتطرف أكثر معرفة من غيره حتى ولو أصابت هذه المعرفة العطب، وصل بنا الحال أننا أصبحنا غير قادرين على محاورته أو الرد عليه، وجد الإرهاب عندما غابت الثقافة والمعرفة وعندما فشلنا فى مواجهة التطرف بسلاحه الحقيقى غير المزيف، بات التطرف أحد أهم سمات هذه الحياة، يمارسه أصحابه كما يمارسه من يدعون محاربته حتى أصبحنا فى حيرة، متخيلين أننا فشلنا فى مواجهة التطرف، والحقيقة أننا وقعنا فى مستنقعه حتى حق أن يُطلق علينا الآخرين متطرفون بجدارة.