لم أكن أعلم أن قدرى الجميل أراد منحى هدية ثمينة، حين دفعنى بصرامة نحو الرحيل إلى إدارة التوثيق والمعلومات والإحصاء، مغتربة كنت فى الماضى طوال الأوقات، أقهر روحى وجسدى حين أهرول كل صباح إلى غرفة، لا تزورها أشعة الشمس، لا حياة فيها، لا تشبهنى، على مدار عدة سنوات.ش
بدأت ميلادا جديدا وسط زملاء، كنت أظن أنه تفصل بيننا مسافات طويلة، وَعِرة، لأكتشف أننى كنت دومًا كدودة القَزِّ، أنسُج حولى شرنقة مُسْتَحْكمَة، لا ألتفت لوجود الآخرين، أُشيِّد أسوارًا شاهقة، تَعزُلنى عن عالم إسمنتِى؛ عاجز، باهت، مزعج! لكن فى لحظة مُباغِتة، تَمزَّقت تلك النسائُج البيضاء!
اقتربت لأول مرة دون خشية من بشر، يحبوننى، يشجعوننى، يؤمنون بى، يسكبون الفرح فى نفسى، يمنحوننى القوة والإرادة لأشارك فى فعاليات مُبهِرة، أقرأ، أدرُس، أترجم، أُقدِّم برنامجا براديو عبر الإنترنت، أكتب مقالات للرأى بجريدة فردَت لى صفحاتها الناصعة.
أجلس فى مكتب بسيط، لكنه أنيق، لا يفارقه نور الشمس، متجدد الهواء، تزينه فروع خضراء وارفة، وزهور بديعة متفتحة، صنَعًتْه أيْدِى زميلات سعيدات بوجودى معهن، يحتفلن بى كل يوم، دون أدنى مقابل! لست أدرى كيف تغيَّرت كل معتقداتى؟! كيف عثرت على القيمة والمعنى فى عتمة الأنفاق؟!
تتدفق الإمبراطورية خطيرة النفوذ بالحياة، رغم الظروف بالغة التعقيد؛ فهى تلتحم مع كافة صنوف البشر، وهو العمل الأصعب والأهم والأخطر، لكنها صامدة أمام كل العثرات! ربما لأنه ينطبق عليها قول المناضل الأمريكى «مارتن لوثر كينج»: (إن الظلام لا يمكن أن يطرد الظلام، الضوء وحده يمكنه أن يفعل ذلك، والكراهية لا يمكن أن تطرد الكراهية، الحب وحده يمكنه أن يفعل ذلك).
تؤمن قيادتها بفلسفة اللامركزية، تشاركية القرار، فلا تُصْدر الأوامر والتعليمات، بل تُطبِّق فكرة النموذج غائر النفاذ، لا تعمل من مستوى فوقى، بل هى جزء من الفريق، مكتبها متواضع، بلا أبواب مغلقة، بلا سكرتارية، بلا انتظار! تستقبل الجميع، تعيش شكواهم، تُصيب الحلول.
أبْصُر فى كل زميلة وَهَجا، يهبنى مفتاحا وفكرة وأملا! «فائقة» ترسم جسرًا بين طبيعة العمل وملكاتى المتعارضة، «أمل» المعتزة بذاتها وعقلها وقلبها، «سوسن» القبطية التى تصالح الإنسان وتحترم كل الأديان، «سناء» سريعة البديهة ومتأنقة البيان، «عبير» عذبة المعتقد والإيمان، «هالة» المشرقة فى كل الأجواء، «رباب» أيقونة نادرة السمات، «سعاد» يقظة الضمير وثيقة الاحتواء، «فاتن» الخارقة التى لا تطمع فى بريق الأسماء، «فاطمة» صافية الظاهر والباطن والكلمات، «أميرة» اللؤلؤة التى تتحدى تلاطم الأمواج، «وفاء» عاشقة الجمال فى كل الأنحاء، «سوسن» المُتزِنة رغم مشقة الأعباء.
نجتمع كل يوم بضعة دقائق، نحتسى القهوة بالحليب مع قطع الشيكولاتة، نحتفل بزميلة أجادت إحدى أدوات العمل، كدرس مجانى، يعلمنا كيف نحتمل السخافات؟! كيف نحمى أنفسنا من العَفَن؟! كيف نَحفُر خندقًا أو نُشيِّد برجًا وسط كل المستنقعات؟!
صِرْت مُلهَمة كل دقيقة! تماثلت روحى للشفاء؟! لمحت وجهًا مدهشًا لواقع مأزوم، كنت أمْقُت، ومازلت! كل مظاهر كذبه وأقنعته الزائفة، التى تخفى قبحًا، يُخيفنى، يُرهقنى، يُطاردنى فى كل فضاء أعمل به؛ صحافة، إعلام، حقوق الإنسان، رغم متعة السفر والمغامرة وتبادل الثقافات.
تبدو الطرق ممهدة الآن، وما زلت أحلم، أدرس، أترجم، أقرأ، أكتب، دون كلل أو ملل! وربما أقدِّم يومًا برنامجًا يخترق آفاق السماء، يصفع السَّفاهة والمُعتاد! يخاطب العقول، يخطف العيون، يشاكس، يفتح كل الأبواب، يتحدى الحواجز والمستحيلات.