«كأن لم يمت حىَّ سواك ولم تقمر على أحدٍ إلا عليك النوائحُ»
في قصائد المديح والرثاء والهجاء، التي تحتل الأغلبية الساحقة من صفحات كتاب الشعر العربي القديم، متسع للمبالغة المتطرفة والإسراف الانفعالي المصنوع غير المحسوب، لكن العثور على نبرة الأسى الصادق في وداع الموتى ليس عسيرا. قد لا يخلو الأمر من مجاملة تقترب من المديح الفج، لحساب الأحياء من آل الموتى، ويبقى الموت على الرغم من ذلك عنصرا فاعلا ملهما لابتكار الجديد الطازج المثير للدهشة والإعجاب من روائع الصور.
من يرثيه أشجع ليس أول الموتى ولن يكون آخرهم بطبيعة الحال، وطقوس الحزن موروث سابق وممتد لا يُضاف إليه ولا أمل في إضافة ذات شأن. من هذه الزاوية الضيقة المرهقة، ينجح الشاعر في الاقتحام والوصول إلى تكوين طازج غير مسبوق، يدلل من خلاله على مكانة الراحل وقسوة أجواء الفجيعة جراء الشعور الطاغي بالفقد والوجيعة.
البطولة، كل البطولة، للكلمة الأولى في البيت: «كأن»، فهى بمثابة التأكيد على حقيقة لا يمكن إنكارها أو التشكيك فيها: ليس الأول في ساحة الموت وما يترتب عليه من تداعيات وآثار، لكن وقع المرارة يوحى بأنه الأول.
بعد قرون من كتابة القصيدة، لا يملك القارئ المعاصر إلا أن يحلق بخياله ليرسم مشهد جنازة مهيبة حاشدة، تليق بوداع عظيم محبوب، يبرهن الازدحام والتهاب المشاعر على أنه أول الموتى، وطليعة من تُصنع لهم طقوس النواح.