تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يتابع الكاتب الفرنسى إريك يونس جوفروا مؤلف كتاب «المستقبل الروحانى للإسلام» بقوله: العالم كله أصبح يطالب المسلمين بممارسة الاجتهاد بصفته فهمًا ذكيًا وعميقًا للوحى وإرادته. وبهذا المعنى، لن تنجو الصوفية من هذه المطالبة، أقصد أنها هى أيضًا مدعوة لممارسة الاجتهاد. والواقع أنها مطالبة بتحقيق شيئين لا شيئا واحدا: الأول هو أنه عليها أن تخصب الساحة الإسلامية الظاهرية العامة، وأن تخصب أيضًا تحرياتها الخاصة بالذات. وهى أرضية تبدو مبدئيًا أكثر دقة وصعوبة وحرجًا فى المعالجة لأنها تخص قضايا الروح.
هناك تساؤل آخر قد يطرح نفسه: ما نوعية الانخراط التى يمكن للاجتهاد الروحانى أن يمارسها فى الواقع الاجتماعي؟ أقصد فى تلك الورشات الضخمة التى لا تزال تنتظر من المسلم المعاصر بحثًا واكتشافًا. وأهم هذه الورشات البحثية التالية: أولا إدخال الروح النقدية إلى ساحة المجتمعات الإسلامية. ثانيًا الضرورة الحتمية لتغيير الضغط الاجتماعى الممارس على التصرفات الدينية كى يصبح المرء حرًا فى علاقته مع المقدس الإلهى. أقصد بذلك أن تصبح علاقته بالدين فردية حرة لا مملاة عليه بالقسر من قبل المجتمع أو الامتثالية الاجتماعية. ثالثا إيقاظ الوعى الأخلاقى والبيئوى لدى المسلم كى يتحسس مشاكل البيئة.
التحديات التى يقدمها البعض هنا أو هناك للعولمة لا تعتم إلا بالجوانب الاقتصادية والمصرفية منها وأحيانًا بالجوانب الاجتماعية والثقافية. أما البعد الدينى أو الروحانى فلا يتناولونه إلا قليلًا. لماذا؟ لأنه من دون شك يبدو متناقضًا مع المضمون التجارى المحض «للعولمة». فالروحانيات ضد الماديات أو قل بعيدة عنها وعن اهتماماتها. أكثر ما يفعلونه هو أن يتحدثوا عن المزج القوى الحاصل بين التيارات الدينية والفلسفية، الأمر الذى يؤدى إلى تشجيع التقارب بينها وكذلك تشجيع الحوار بين الأديان. ولكنه يؤدى أيضًا كرد فعل إلى تشجيع تشكل الهويات الطائفية المتوقعة على ذاتها خوفًا من الذوبان فى «العولمة» الجارية. نقول ذلك على الرغم من أنه أصبح موجودًا منذ الآن فصاعدًا «سوق حقيقية للدين أو للعامل الديني».
الجديد فعلا والمدهش حقًا هو تشكل «سوق الروحانيات» كبرى تطرح مباشرة مشكلة العلاقة بين الدائرة الدينية والدائرة الروحانية. تعرضت الأديان المؤسساتية الراسخة لفقدان قيمتها حاليًا بشكل يقل أو يكثر وبخاصة فى فرنسا، فالكثيرون مثلا يعيبون على الأديان التوحيدية الثلاثة أنها تثير العنف والتعصب والتزمت. أما مجتمعات أوروبا الغربية فتعتبر الآن مجتمعات ما بعد مسيحية أى أنها خرجت من المسيحية، هذا فى حين أن قوة الإسلام الظاهرى تشهد أحيانًا تصلبًا عقائديًا وتشددًا فى التصرفات ضد الآخرين. قلت الإسلام الظاهرى ولكن ليس الإسلام الصوفى الباطنى الروحاني. الصيغ الدينية المفرغة من الروحانيات مرشحة للموت والانقراض.
ويحاول المؤلف أن يجيب عن سؤال: هل الطرق الصوفية ظاهرة رجعية؟ كانت الصوفية تتوجه فى البداية إلى نخبة النخبة، أقصد النخبة الروحية وليس الاجتماعية. وإذا ما قسنا المسار المقطوع منذ ذلك الوقت الأوّلى وحتى تعميمها شعبيًا داخل الأطر الطرقية والزوايا؛ فإننا نلاحظ شيئًا مبلبلًا ومحيرًا. لماذا؟ لأن هذا الانتشار الشعبى الواسع كان قد أنجز فى الغالب عن قصد وتبصر من قبل الشيوخ الصوفيين أنفسهم. لكن وراء هذا القلب الظاهرى للقيم من نوعية إلى كمية، أو تحول المغامرة الشخصية إلى ضبط جماعي، كان هناك دون شك نوع من الحكمة، حتى لو لم تكن هذه الحكمة تتمثل إلا فى التأقلم مع السياقات المكانية- الزمانية التى هى فى حالة تغير مستمر. ونلاحظ على هذا الصعيد أن كبار شيوخ الصوفية كانوا قد أثبتوا دائما أنهم برجماتيون أو عمليون. وبالتالى فلم يكن هنا عكس للقيم كما حدث بالنسبة للإسلام التاريخى الذى توقفنا عنده مطولا فى بداية الكتاب.
وفى الخاتمة يقول المؤلف: يمتلك الإسلام الأصلى الأولى الإمكانيات العقائدية والروحية للقيام بهذا الانبعاث. ولكن هل لا يزال المسلمون «التاريخيون» قادرين على حمل رسالته؟ نقصد بالمسلمين التاريخيين المسلمين الواقعيين الحاليين. كى يستطيعوا إنجاز ذلك عليهم إعادة اكتشاف الإسلام الكونى الذى يمثل تجلى (الدين القيم) الآدمى، كما هو معروض فى القرآن. ولكن هل نعرف كيف نقرأ القرآن؟ إن هذا الدين الأولى هو الذى يمتص كل الأديان التاريخية، ويتعالى عليها فى الوقت الذى يستوعبها ويحتضنها. ومعلوم أن هذه الأديان التاريخية أصبحت بالية مستهلكة من قبل مرور الزمن المتطاول عليها كما من قبل تفاهة البشر وحساباتهم الصغيرة وميلهم للتعصب. ولذا أصبحت هذه الأديان التاريخية منحازة وتعصبية وإيديولوجية بعد أن فقدت براءتها الأولية.