«تميت وتحيى بعد موتٍ.. وموتها لذيذ.. ومحياها ألذ وأحمد»
في خمريات الأخطل، الشاعر الفذ الذي تقطر لحيته خمرا كما يُقال عنه، تحليق خلاب في سموات النشوة والتحقق والانسجام بلا ذرة من نشاز مع عالم بديل مضيء، لا شيء فيه من تجهم الواقع الكئيب ومعطياته الغليظة الجافة المغلفة بالوجع.. عاشقو الخمر من غير الشعراء، يشعرون بالفلسفة التي يجسدها الأخطل ولا يتقنون ترجمتها على النحو الذي يفعله، لكن الشاعر ينجح في صياغة منظومة كاملة من الأفكار المتماسكة المتجانسة في إيقاع سريع دال، كأنه يترافع أمام محكمة ليدحض مقولات خصوم يسرفون في الإدانة والاتهام، ويتحاملون بغير علم ومعرفة ودليل.
لا يدرك لذة الخمر وأفاعيلها المدهشة إلا عاشق أصيل يحيط بأسرارها وخباياها، وما يترتب عليها من تشكيل يختلط فيه الموت المؤقت العابر بالبعث والحياة الملونة المنعشة.. في حالة كهذه، يبدو الدفاع عن المعشوقة واجب لا يهدف إلى الظفر بالبراءة، فالغاية الأسمى هي الكشف والإضاءة والبوح بما لا ينبغي كتمانه والتستر عليه.
«نصرانية» الأخطل لا تضفى عليه خصوصية في العلاقة الوثيقة مع الخمر، فما أكثر الشعراء المسلمين الذين يعبرون عن التوجه نفسه، ويؤمنون مثل الأخطل بجلال الخمر وقدرتها على أن تميت وتحيى، كأنها الإله المعبود المحبوب، لا غنى عنه ولا معبود سواه.