أتعجب، وقطعا سيتعجب الكثيرون فى بر مصر، من أمور تجافى المنطق وتخالف القانون، فضلا عن أنها تتعارض تمامًا مع استراتيجية الدولة فى كل ما يتعلق بالصحة، باعتبارها من أولويات الأمن القومى مثل التعليم ومكافحة الفقر، فالمجتمع السليم هو الركيزة الأساسية للنهوض بالدولة على المستويات كافة، لكن يبدو أن هناك «لوبى» من أصحاب المصالح، يحاول الهرب من العجز والفشل، بابتكار أساليب تجرنا إلى مستنقع الجهل والفقر والمرض.
كلنا يعلم أن الإرادة السياسية توافرت لمكافحة الأمراض المتوطنة، لذا تم تحطيم كل المعوقات التى كانت تقف فى وجه علاج ملايين المصريين نهش فيروس «سى» أكبادهم، ألغيت المحسوبية والتسول على أبواب مكاتب النواب، للحصول على تأشيرة للفوز بالوقوف فى طابور الانتظار للعلاج المجانى، فعندما أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسى قراره باعتبار أن القضاء على فيروس «سى» مشروعًا قوميًا، انتفضت كل قطاعات وزارة الصحة، تشكلت اللجان المتخصصة، وتم التعاقد مع الشركات العالمية لاستيراد الدواء بدون سمسرة أو عمولات، وفى نفس الوقت بدأ العمل فى إنتاج للدواء المحلى، أما الإجراءات فكانت يسيرة بصورة لافتة، يتقدم طالب العلاج بملء استمارة على موقع اللجنة القومية لعلاج الكبد، ويأتى الرد وتحديد الموعد لبدء العلاج خلال أسبوع، وفى وقت قياسى تم علاج مئات الآلاف، وأنا واحد من هؤلاء الذين تلقوا العلاج المجانى، فهل نحن فى حاجة لأن تتدخل القيادة السياسية فى أمور هى بالأساس من صميم عمل الذين تولوا المسئولية فى الوزارة؟ هل نحن فى حاجة للتدخل فى كل كبيرة وصغيرة، كى نتخلص من «ألاعيب شيحة» التى تمارسها وزارة الصحة؟ ولماذا لا يتم توفير الأدوية فى المستشفيات الحكومية للحالات الطارئة؟
بسبب هذه الألاعيب، أقصد، محاولة التنصل من المسئولية، تم جرجرة الآلاف من الأطباء إلى النيابات للتحقيق معهم فى اتهامات متنوعة، لكننا سنتوقف أمام وقائع هى بالأساس تمثل اتهاما بالفشل للمسئولين بوزارة الصحة، وفى الوقت ذاته تحسب لصالح الطبيب، وليس ضده، لما تحويه من فعل إنسانى يتسق مع رسالته النبيلة، أو لأنه شاطر، يحاول القفز على العراقيل لإنقاذ المريض، والشاطر يغزل برجل حمار كما هو شائع فى الأوساط الشعبية.
القصة ببساطة شديدة جدًا، أن كبار المسئولين فى وزارة الصحة دأبوا على اتباع أساليب غريبة، الغرض منها حماية أنفسهم من المساءلة السياسية والقانونية، جراء الفشل فى توفير الأدوية داخل المستشفيات، بتعليمات يصدرونها فى صورة منشورات، توزع على المديرين، كثيرًا ما تتحول إلى منشورات دورية لإخراجها وقت الضرورة، مفادها عدم كتابة أى صنف دوائى غير موجود داخل صيدلية المستشفى، وغالبًا لا يوجد أى دواء بالمرة داخل المستشفيات. وإذا كتب الطبيب دواء يقوم المريض بشرائه، يتعرض للمساءلة مرة من الإدارة، التى تعلم الحقيقة وتصم آذانها، ومرات من شكاوى المرضى غير القادرين على شراء الأدوية والمستلزمات الضرورية للعلاج، يحدث بدون الأخذ فى الاعتبار وجود حالات لا تحتمل ترف انتظار المكاتبات الرسمية، وما يتبعها من إجراءات إدارية، كما أن الطبيب صاحب رسالة وليس مقاول أنفار، يقوم بالتشخيص ويقول للمريض: «عندك كذا.. اتفضل مع السلامة».
استفزنى هذا الحوار الذى جرى بين مريضة وطبيبة، باعتباره كاشفا للحقيقة المرة التى نحن بصددها، ورغم أننى سمعت مضمونه المعبر عن السخط، فى جلسة ضمت مجموعة من الأطباء، إلا أنه متداول الآن على مواقع التواصل الاجتماعى.
الطبيبة: معلهش يا مدام انتى العلاج بتاعك ناقص ومش موجود فى المستشفى.
المريضة: يعنى إيه يا دكتورة.
الطبيبة: يعنى للأسف مفيش علاج هقدر أكتبهولك.
المريضة: ليه يا دكتورة مش هتعرفى.. خلاص اكتبيلى علاج أجيبة من برة.
الطبيبة: للأسف مش هينفع علشان دا ممنوع.
المريضة: يعنى إيه ممنوع.. أومال أنا جاية ليه؟
الطبيبة: جاية علشان نشخصك.
المريضة: يا فرحتى بالتشخيص هعمل بيه إيه من غير علاج.
الطبيبة: للأسف مش هقدر، مش هقدر، ادخلى على أى جروب وشوفى التشخيص على النت وعندك بنات ما شاء الله، لهاليب، هيقولولك كل حاجة، وهيدوكى خلاصة تجاربهم اللى احنا مش عارفينها.
المريضة: إيه اللى بتقوليه ده يا دكتورة.. من فضلك ساعدينى اكتبيلى علاج.
الطبيبة: يا ريت أقدر أنا قلبى بيتقطع عليكى بس ممنوع أنا آسفة.
المريضة: أرجوكى يا دكتورة انتى مش حاسة باللى أنا فيه.
الطبيبة: لا إله إلا الله خلاص يا ستى، هكتبلك الدوا وتصرفيه من برة، وربنا يستر.. اتفضلى يا مدام العلاج وألف سلامة.
«وبكده خلاص وقعت الطبيبة فى الفخ.. تعالوا اقبضوا عليها علشان كتبت علاج من برة المستشفى».
أمام تكرار إحالة الأطباء للتحقيق، وجهت نقابة الأطباء رسالة مفتوحة للأطباء بعنوان «عزيزى الطبيب.. عالج مريضك وأنقذ نفسك»، جاء فيها.. «نظرا لتكرار وضع الإطباء فى مشاكل قانونية خطيرة، عند تصرفهم بطرق اعتبرت غير قانونية، وذلك لتلبية الاحتياجات العلاجية للمرضى، عندما تكون هذه الاحتياجات غير موجودة بأماكن عملهم الحكومية، حتى وصل الأمر لتحويل قضية دكتور محمود ناصر إلى نيابة أمن الدولة العليا، لذلك ترجو نقابة الأطباء من جميع الأطباء الالتزام بهذه التنبيهات المهمة، لتقديم الخدمة بكل السبل للمرضى والالتزام فقط بعمل الفحوصات وكتابة الأدوية الموجودة بالمستشفى، وعدم طلب أى مستلزمات طبية من المريض غير الموجودة، وفى حالة عدم توافر أى أدوية أو تحاليل أو أشعات أو مستلزمات طبية ضرورية لإتمام علاج المريض، يتم إثبات ذلك فى ملف المريض وتوجيهه أو مرافقيه بمذكرة مكتوبة من الطبيب لمدير المستشفى أو من ينوب عنه لاتخاذ ما يراه مناسبا لتوفير المطلوب لخدمة المريض.. إلخ.. على جميع الأطباء الالتزام بهذه التعليمات حماية لهم».
أنا هنا لا ألوم نقابة الأطباء، فهى تسعى لحماية أعضائها من الجرجرة لجهات التحقيق على أفعال إنسانية وقانونية، لكنها تتعارض مع قانون صناعة الأيادى المرتعشة.. فهل هناك من يتدخل لحماية المريض قبل الطبيب؟