السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هيباتيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إنه لأمر مثير للدهشة أن تجد كثيرًا من الناس مستعدون للقتال حتى الموت فى سبيل الخرافات، وكأنها حقائق ملموسة، فى الوقت الذى يعتبرون فيه الحقائق مجرد وجهة نظر وأنها قابلة للتغيير.. وإذا ما أردت أنتَ الذى تؤمن بالحقائق محاربة تلك الخرافات، وجدت الأمر شاقًا صعبًا، بل يكاد يكون مستحيلًا؛ ذاك أن الخرافات غير ملموسة، ومن ثم لن تستطيع نفيها بشكل ملموس!!
هناك فى الشمال.. فى مدينة الإسكندرية إبّان العهد الروماني.. بعد الميلاد بأربعة قرون.. بالتقريب بين عامى ٣٥٠ و٤١٥م.. عاشت أول امرأة نبغت فى علوم الفلسفة والرياضيات.. إنها الفيلسوفة الجميلة هيباتيا.. ابنة الفيلسوف ثيون.. التى درست أول ما درست على يديه.. ثيون وُلد فى الإسكندرية وعاش بها.. وكما كان فيلسوفًا، كان -كما كانت ابنته من بعده- عالـمًا فى الرياضيات.. ثيون هو آخر مدير لمكتبة الإسكندرية القديمة قبل إغلاقها.. تلك المكتبة التى كانت أكبر مكتبات عصرها إبّان العهد البطلمى.
كانت هيباتيا تؤمن بأن الفلسفة هى روح الحقيقة؛ ولذلك أخذت على عاتقها محاربة الخرافات والأساطير التى سادت بين أبناء عصرها، انظر إليها تقول: (ينبغى تدريس الخرافات على أنها خرافات، والأساطير بوصفها أساطير، فتدريس الخزعبلات على أنها حقائق، إنما هو أكثر الأشياء بشاعة على الإطلاق؛ لأن العقل الطفولى هو الذى يتقبلها ويؤمن بها، ولن يستطيع التخلص منها إلا من خلال مكابدة ألم عظيم، ولربما مأساة).
قصد هيباتيا طلابُ العلم من كل حَدَب وصوب.. من الشمال ومن الجنوب.. من الشرق ومن الغرب.. قصدوها ليتعلموا منها الرياضيات والحكمة والفلسفة، وعلى وجه الخصوص فلسفة أفلاطون.. قصدوها فى مدينة الإسكندرية.. مدينة لا شرقية ولا غربية.. كادت أن تضيء من غير نار.. مدينة أنارت العقول وبددت ظلمات الجهل، بمكتبتها الضخمة التى حوت مئات الآلاف من الكتب فى شتى العلوم والمجالات.. وأنارت البحر فى الليالى الحالكة بمنارتها الهندسية العظيمة، التى كانت تهدى السفن إلى مراسيها.
سافرت هيباتيا إلى أثينا ونهلت من علومها ومعارفها.. أتدرون مَن أثينا؟.. أثينا هى إلهة الحكمة عند الإغريق، واستعير هذا الاسم ليطلق على تلك المدينة التى اشتهرت بالعلوم والفلسفات فى اليونان القديمة.. إنها أثينا مهد الحضارة الغربية وأول عاصمة ثقافية لها.. ولكن ينبغى ألا يُنكر التاريخ أن الإسكندرية كانت قد حلت محل أثينا فى فترة من الزمن، فكانت هى عاصمة الثقافة الإغريقية وقِبلة القاصدين.
وبين الإسكندرية وأثينا، دعت هيباتيا السكندرية إلى إعمال الفكر، تقول: (حافظ على حقك فى التفكير، فحتى التفكير الخاطئ أفضل من ألّا تفكر على الإطلاق).. كانت تترافع أمام قضاة المدينة، وتقف أمام حكامها بكل هيبة وشموخ، متشحة بوشاح الحجة والبرهان.. لذلك اكتسبت حب الجميع وتقديرهم، وأثّرت أفكارها فى طلابها أشد التأثير.
ولكن هذا الفكر المستنير والدعوة إلى إعمال العقل ومحاربة الخرافات، لم يَرُق لرجال الكنيسة فى ذلك الحين، خاصة أن الناس قد التفوا من حولها، واقتنعوا بأفكارها، فسلطوا عليها بعضًا من الغوغائيين، فانتظروها أمام منزلها حتى تعود، ثم أمسكوا بها وجردوها من ملابسها، وقاموا بجرها على الحجارة فى طرقات المدينة، وبعد أن سكنت صرخاتها، قطّعوا ما تبقى من جسدها وأحرقوه!!
هذه قصة امرأة عالمة فيلسوفة، قتلها الجهل والتعصب والتطرف.. والتساؤل: لماذا تستمر الخرافات سائدة لعدة قرون رغم تناقضها مع أبسط قواعد المنطق؟! ولعل هذا التساؤل يفسره أن المحاجات العقلية غالبًا ما تفشل عندما تصطدم مع المشاعر والعواطف؛ ذاك أن قواعد المنطق غير تلك القواعد التى تحكم العاطفة.. وليتنا نتعلم متى نحتكم إلى المنطق، ومتى نحتكم إلى العاطفة؟