الأربعاء 04 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

ناصر والجدار المشروخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى فيلم دكان شحاتة للمخرج خالد يوسف ألمح كاتب القصة والسيناريو والحوار ناصر عبدالرحمن فى جملة عبقرية سريعة بالغة الدلالة على قيمة وقامة الزعيم جمال عبدالناصر، الفنان الممثل محمود حميدة بطل الفيلم مرهق على أريكة يتأمل جدار غرفته؛ كان الشرخ فى الجدار يتسع، وصورة عبدالناصر معلقة بالقرب من الكارثة التى تهدد الجدار، يتأمل حميدة المشهد مناديًا ابنه المطيع قائلًا فيما معناه لأننى لا أتذكر النص جيدًا « ياولدى حرك صورة الريس شوية خليها تدارى الشرخ».
بالضبط هذا ما حدث، ناصر الأسطورة المصرية المولود من كل الأمهات وأبوه نهر النيل استطاع مع رفاقه أن يستنهض المخزون التاريخى للأمة المصرية، لتعلن للعالم أجمع كما قال صلاح جاهين «إنه اتغير الاسم منذ الآن وأصبح مصر».. هكذا بدأت الرحلة الصعبة والعصيبة، المؤامرات تحاك من الخارج بل ومن الداخل أيضًا لإيقاف دوران العجلة ولكن بالإرادة التى كانت كلمة السر فى الصعود المذهل استطاعت التجربة الناصرية أن تحفر لنفسها ولشعبها ووطنها طريقًا جديدًا اسمه الاستقلال والكرامة والعدالة.
لم يكن سهلًا استيعاب تسارع الأحداث بمصر فى عقد الخمسينيات من القرن الماضي، الجدار المشروخ يأخذ طريقه لكى يلتئم، تخرج الفكرة من الحدود الأربعة لتنطلق عربيًا وأفريقيًا وتصبح صرخة جمال عبدالناصر فى القاهرة هى العنوان الأبرز لكل حركات التحرر الوطني، ويزيد من صلابة تلك الصرخة الدعم الشعبى غير المحدود الذى منحه المصريون لتجربة ناصر الزاهد ورفاقه الأبطال.
ولأننى تتلمذت على يد الصاغ الأحمر الفارس خالد محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس حزب التجمع فيما بعد، كنت أتعجب من التزام أستاذى بتجربة ناصر رغم توتر الأجواء بين ناصر وخالد بعد أزمة مارس ١٩٥٤، ولأن تجربة ناصر كانت أكبر من التوتر جاء التزام خالد محيى الدين ليعطينا الدرس فى الانتماء للقضايا الكبرى وعدم التعصب والبعد كل البعد عن التطرف فى الفكرة والتعامل السياسى الذكى الواقعى خدمة للأهداف المرجوة.
الشرخ الذى رصده الضباط الأحرار كان يتسع ومجتمع النصف فى المائة تتدهور أحواله المعيشية، الصحة والتعليم والبناء والتنمية، التصنيع والسياسة الخارجية القائمة على التكافؤ والندية، كلها مفردات تؤسس لكرامة وطن أراد الحياة وبإرادته تحققت المعجزة، نحسد نحن مواليد الستينيات آباءنا الذين ارتدوا الأفرول الأزرق فى المصانع وشاهدوا الزعيم ناصر بأعينهم فى جولاته المكوكية على كل شبر بمصر، نحسدهم لأن لهم ناصر وتجربة عريضة فى البناء والتقدم، بينما نحن تفتح وعينا على قصاصات الجرائد والكتب الصغيرة التى تحكى عما مضى.
عرفت ناصر من نعش خشبى فارغ مغطى بقماش أسود يجوب شوارع شبين الكوم عندما كنا مهجرين من الإسماعيلية بسبب نكسة ١٩٦٧ خلف النعش حشود لم أر مثلها فى حياتي، الرجال تبكى وصراخ النساء من الشبابيك ينطلق، كنت طفلًا شابكًا يدى فى يد أخى الأكبر الذى يبكى مثلما يبكى الآخرون بينما أنا أتأمل وأندهش، عرفته مرة ثانية من بندقية لأبى حيث تطوع فى المقاومة الشعبية التى أسسها ناصر ورعاها؛ ردًا على عدوان ٦٧ فى لمح البصر الطفل السائر فى الجنازة والشابك يده فى يد أخيه الأكبر يحصل على الليسانس فى الصحافة والإعلام، تزغرد أمى لتهمس بعدها فى أذنى «إدعى لعبدالناصر هو السبب إنك خدت الشهادة الكبيرة».
الشرخ يا ناصر يناديك من جديد، لن تستطيع صورتك الفوتوغرافية بالأبيض والأسود المعلقة على جدران بيوتنا أن تصلح الشرخ الذى زاد، فطمع فينا أراذل الناس.
تجربة ناصر رغم سياقها التاريخى الذى يختلف تمامًا عن سياق الآن، إلا أنها ستظل الأبرز والأكثر نجاعة فى علاج الشرخ، فهل يبعث ناصر من جديد؟