تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
المقولة الثانية فى سرديتنا الجديدة: مقولة التعارف. {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتقالكم}(سورة الحجرات: ١٣). القرآن يقرر أنّ العلاقات بين البشر تقومُ على التعارُف. والتعارُف أعلى وأغنى وأكثر إنسانيةً من الاعتراف. وتعالوا قبل التفصيل ننظر فى هذه اللام العجيبة فى: لتعارفوا. هل هى لامُ السببية والتعليل أم هى لامُ العاقبة؟ ولامُ العاقبة تعرضُ فى الظاهر نتيجةً غير منطقية. ففى القرآن: {فالتقطه آلُ فرعونَ ليكونَ لهم عدوًا وحزنا}(سورة القصص: ٨). وبالطبع فإنّ احتضان الطفل موسى من جانب آل فرعون ما كان الهدف من ورائه أن يكونَ عدوًا لهم، بل ابنًا متبنًى، لكنّ النتيجة لم تتطابق مع المقدمة وهى الإنقاذ والاحتضان. فهل تكونُ لامُ: لتعارفوا، لامَ عاقبة، بمعنى أنه رغم الاختلاف الشديد فى الخلق والتنظيم الاجتماعي، فإنّ التعارف حاصلٌ على سبيل التكامُل، أو يكونَ كل فردٍ أو كل مجموعة ناقصة. أو تكون اللام لامَ الأمر، أى لكى تتعارفوا أو لأنه ينبغى أن تتعارفوا، لأنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، بمعنى أنّ التقى هو الذى يحقق التعارف ويُثابُ عليه؟!
هذه الفذلكة قد لا تكون ضرورية. هناك نصٌّ قرآنيٌّ صريح هو أنّ العلاقة بين البشر قائمةٌ على التعارُف. وكل عارفى القرآن يعلمون أنه ما من مفردٍ يرد فى القرآن أكثر من مفرد المعروف المقارب فى المعنى لمفرد التعارُف وإن لم يكن ببلاغته وإبلاغه. فالإمام الغزالى يقول فى «إحياء علوم الدين»: إنّ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو أصلٌ من أصول الدين.
وهنا أيضًا، أى فى هذه الفلسفة للعلاقة بين البشر، أى فلسفة التعارُف إشكالات. فالسائد اليوم فى العالم، وبين المسلمين، أنّ الإسلامَ دين قوةٍ واعتساف. وقد قضى العلماء قرابة المائة عام وهم يدافعون عن مقولة أنّ الجهاد فى الإسلام دفاعي، وما صدّقهم الكثيرون. فلننظر فى هذه المسألة أيضًا. هناك الآية الفاصلة: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم}(سورة الممتحنة: ٨). والبر والقسط يدخلان فى معنى التعارُف ووجوهه الكثيرة التى يعبّر عنها مفهوم المعروف. إذ هناك حالتان لا بد من الدفاع فيهما عن النفس وهما: الإكراه على الخروج من الدين، والإكراه على الخروج من الديار. وفيما عدا ذلك ليس هناك قتالٌ واجب، ولو امتلكْتُ الشجاعة الكافية لقلت: ليس هناك قتالٌ جائزٌ.
إنما ماذا نفعل بهذا الموروث الهائل من أدبيات الجهاد؟ وماذا نفعل مع الفتوحات الضخمة، والإمبراطوريات الهائلة؟ إنّ شأننا فى ذلك شأن الأُمم الأُخرى، ويمكننا القول كما قال الشعبى للحجاج: ما كنا بالبررة الأتقياء ولا بالفجرَة الأقوياء! علينا أن نقرأ تاريخنا ونصوصنا لا بعيون الإنكار أو التقديس، لكن ينبغى أن نفهم ونتعقل ونتجاوز، لزمنٍ جديدٍ وعهدٍ جديدٍ، ما عُدْنا كما كنا لا فى موازين الأقوياء ولا حتى الضعفاء، وواحسرتاه، أصغوا معى لقوله تعالى: {وأذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعَفون فى الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون}(سورة الأنفال: ٢٦).
إنّ التعارُف هو رسالةُ سلامٍ إلى العالم، إلى سائر بنى البشر. وهو أرفعُ من الاعتراف، فأنتم تعرفون أنّ الاعتراف هو فى الأصل وسيلةٌ لدى الكنيسة للتكفير عن الذنوب. ثم صار فلسفةً دخلت فى النسبية الثقافية، فصار ذلك قيمةً عليا فى تدبير الاختلاف، ووصل العلاقة بين البشر. إنه مثل التسامح، فيه غضاضةٌ، وفيه خروجٌ من الإنكار وإن يكن المرءُ مُرغمًا. أما التعارف فهو عملٌ إنسانيٌّ للتكامل وصنع الخيرات المشتركة: {ولكلٍ وجهةٌ هو موليها فاستبقوا الخيرات. أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا}(سورة البقرة:١٤٨). فالتعارفُ وجهةٌ أو اتجاهٌ يختاره المرء بالحرية وبالطبيعة الإنسانية، ويتقصد من وراء ذلك التكامل فى إنسانيته وصُنْع الخير. ولذلك فهو رسالةُ سلامٍ إلى العالم، وقد فات المفكرين المسلمين الإصلاحيين من قبل. لكنهم اندفعوا باتجاهه فى العقدين الأخيرين، وفى طليعتهم العلامة بن بية.
إنّ القول بالمعروف والتعارف قولٌ بأخلاق وقيم عالمية، وهذا الذى ينبغى العمل عليه بدون تردد.
- والمقولة الثالثة: هى مقولةُ مقاصد الشريعة. وهى تحدّد الوجوه والمجالات المتصلة بصون الوجود الإنساني، والتى يكون على المسلمين بمقتضى التعارُف، وبمقتضى القيم المشتركة أن يؤدّوها لأفرادهم ومجتمعاتهم، وللناس أجمعين. وهى بحسب الفقهاء خمس ضروراتٍ أُنزلت الشرائع لصونها: حق النفس، وحق العقل، وحق الدين، وحق النسْل، وحق الملك. وقد قلتُ من قبل إنّ العلماء المسلمين المُحدثين اكتشفوها فى القرن التاسع عشر فى كتاب الموافقات للشاطبي، وطُبع الكتاب بمطبعة الدولة بتونس عام ١٨٨٤، وحمله الشيخ محمد عبده فى حقيبته طوال حياته. ثم أعاد أحد تلامذته طبعه بعد وفاة الشيخ. وقد استخدمت المقاصد بعدة وظائف خلال القرن. وتراجعت استخداماتُها فى فترة الصعود الأصولى والإحيائي. إنما منذ الثمانينيات صارت توظف للشراكة والتواصُل مع العالم. وقد انطلقت منها عشرات الإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان. وقد اعتبرها عدةُ دارسين أساسًا لنظرية القيم المشتركة بين الأديان والثقافات، واعتبرها العلاّمة بن بية رسالة التزامٍ وسلامٍ مع العالم. وهى تحتاجُ فى الشرح إلى تفاصيل كثيرة، ولأنّ المجال يضيقُ عن ذلك فى هذا المعرض، فسأتوقف عند هذا الحدّ، فلنتأمل جيدًا فى هذه المشتركات من ناحيتين: لناحية الانفتاح الكامل على «المعروف» العالمي، ولناحية اعتبارها: أخلاق عمل يقترحها الدين، بل ويكلّف بها.
وأختم ببعض الملاحظات:
أولًا: إنّ هذه المحاولة بشأن المقولات الثلاث هى اجتراحٌ لسرديةٍ جديدةٍ فى فلسفة الدين الإسلامي. والمقصودُ بها أن تكون رسالة سلامٍ مع النفس ومع العالم.
ثانيًا: كل العناصر أو المقولات الواردة جرى التعرض لها من جانب الإصلاحيين العرب والمسلمين خلال أكثر من قرن. وليس لى إلاّ التركيب المستند إلى التأويلية أو السردية الشاملة التى ذكرتها. وهى تحتاج بعد إلى عملٍ كثير.
ثالثًا: إنّ التأويل ليس منهج ضرورة ولا ابتداع فى الدين أو النصوص الكلاسيكية أو الحاضرة. بل هو منهج تفتيحٍ لإمكانيات النصّ، وبخاصةٍ النصوص الدينية أو المقدسة. والتأويلية هنا لا تبدو فى مفردات السردية، بقدر ما تبدو فى تركيبها أو تحويلها إلى منظومة.
رابعًا: هناك فرقٌ ظاهرٌ بين التأويل والتأصيل. فالتأويل يراعى المفرد والنظمَ والسياق وطبيعة المنظومة؛ بينما يعتبر المؤصِّل أنّ النصَّ الذى يرجع إليه يتضمن كل شيءٍ بحروفه، ودونما تأويلٍ أو تفسير. ولذلك، وفى ظروف الأزمنة المأزومة التى نمر بها، كثر التقاذف بالنصوص، وقتل الناس بها من جانب إدارات التوحش.
خامسًا: وأخيرًا: أردْتُ من هذا النظم أن يكون رسالة سلامٍ وتصالُحٍ مع العالم، وهذه القيم هى مقتضى ديننا بالفعل، هذا ما أُومن به. لكنّ الرسالة تحتاج، كما سبق القول للمزيد من العمل البحثي، والمزيد من القراءة النقدية لكل ما أحاط بمفرداتها قديمًا وحديثًا. وهذا جَهد المُقِلّ. وبالله التوفيق.