تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
فى بيتنا مكتبة، عليها فتحتُ عيني، مثلت لنا كفضاء مكانى ذى أهمية إذ منها وإليها يمتح أبي، وأعمامى من سكنوا معنا، تتصدر رفوفها كتب دينية هى مجال والدى معلم القرآن ومسئول أحد المخازن المركزية لإدارة المساجد والمدارس القرآنية بطرابلس، أتذكر ما حوته مكتبتنا من إهداءات وهى نسخ إضافية تطال رؤساء تلك المخازن، ووضعها أبى فى مكتبة العائلة، وأزعم أنها كانت متاحة لكل من يدخل من ضيوف لمربوعتنا (غرفة الضيوف المتواضعة) بل بعضهم حظى باستعارة حرة يُرجع الكتاب ساعة يشاء، يحضر فى ذاكرتى بعضها، تُحاذى مجلدات المقدمة لابن خلدون بطبعة قديمة، وتفاسير مختلفة للقرآن منها تفسير المراغى فى ثلاثين نسخة كنا نتبارى من يكمل قراءة النسخة المفردة الشارحة، وكان أبى قد ألزمنا بحفظ جزء «عم» وشروحه وترك لنا خيارا للباقى! وقد رآه هاما لأداء صلاتنا التى علمنا كيف نؤديها ولم يكن فيها علينا رقيب ولا حسيب، كانت مجلدات عشرين جزءا هى فتاوى من المغرب تزدان بلون أخضر، تفسير التحرير والتنوير للتونسى المُستنير محمد الطاهر بن عاشور ما انحاز له أبى دونا عن الطبري، والقرطبي، وابن كثير، وفى المكتبة كانت الدوريات الليبية صحفا ومجلات فى درج داخلى واسع منها مجلات الشورى، المرأة، والأمل، وإصدارات من عناوين الثقافة الليبية ما رآها والدى تأسيسا لعلاقتنا بوطننا، وما رسخ فى ذهنى بعضا من رواد الكتابة ببلدننا: محمد مسعود فشيكة، محمد مصطفى بازاما، خليفة التليسي، أمين مازن، محمد أحمد وريث، على الرقيعي، عبدالله القويري، محمد الزوي، أحمد إبراهيم الفقيه، وسأتذكر قصص خديجة الجهمى للأطفال.
فى أجواء بيتنا مشاهد مُزدحمة ظلت فى ذاكرتى مشوبة بابتسامة حائرة إذ والدى وأعمامى هادئون فى مُعتادهم اليومي، لكن أصواتهم ترتفع ساعة نقاشاتهم وخصوماتهم حول ما يقرأون بين منحازين ومدافعين.. كان والدى ناصريا مُخلصا قحا، ففى وسط بيتنا صورة ممهورة بتوقيع الزعيم الخالد، كما سمى أخى «عبدالناصر» تيمُنًا به، وكان أن انفتح أعمامى عقب إكمالهم دراستهم الجامعية على أبواب معرفية أخرى، كما رفاق جُدد بأفكار مُشرعة سياسيا!، لم ترق لأبى أفكارهم المغايرة لكنه قبلها، وكما فى قولنا الشعبى الليبى كان يحمل ويُطبق شعار «بَدّل ساعة بساعة» (ما يعنى أن تحتمل ساعة الغير كما يحتملون ساعتك)، وكثيرا ما وصل النقاش مفترق طريق يهدد بالانفلات والتشتت، حتى أننا نجلس جميعا على مائدة الطعام فإذا بالنقاشات تحتد، ويجرى إكمالها على قعدة أدوار الشاى الليبى التى كانت تعدها أمي، وهى تنجز واجبات مدرسة محو الأمية لمؤسسة اليونسكو مبتدأ سبعينيات القرن المنصرم، لكنهم فى لحظة ما يعودون أدراجهم كما لو أن شيئا لم يحدث وأن لكل رأيه يجب أن نقف عنده مستمعين!.
ما كنت قارئة لولا أبي، معلمى الأول ولاحقا كمذيعة كان مستمعى الأول وفى ظنى أن فضل التأسيس والعلاقة بهواية القراءة الإذاعية وفى حضرة المايك، أدين به له، القراءة المكتبية بل ومناخ وتفاصيل تلك القراءة، غالبا ما سمعت أبى يردد لإخوته ومن ثم لنا أبناؤه: هل قرأت العبارة جيدا؟ هل استوعبت المقصود؟ بل كثيرا ما شاهدته يطوى طرف الورقة أو يمسك قلما ويضع خطوطا وينقل ما يعجبه فى رزنامة سنوية يتابع بها شهور وأيام السنة، كان محبا لتسجيل وتوثيق يومياته ما نحتفظ بها إلى يومنا هذا عن عديد السنوات، وعن القراءة وإعادة القراءة التى ورثناها عن أبى كانت من موجبات التركيز والفهم، وكانت لى أن استطعم المعنى فى قراءات أخرى فلم تخل مكتبتنا من الثقافة والأدب والفنون، صرت أقيم علاقة بكل ما أقرأ، أن أدوره فى مخيلتي، أن أنقله بصورة لا يشق فهمها على مُستقبِلى القابع والمتابع للراديو الذى كثيرا ما شوشرة الحياة ومكابداتها تبعد ذلك الجانب من تلقيه، الخيال لعبة القارئ والمستمع فيما ينقله البث المسموع من عوالم، ولعله إلى يومنا هذا مصدر جذب للمستمع إذ وفرت التقنية متابعته أينما تواجدنا.