تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ما زلت أتذكر حكايات البسطاء عن جمال عبدالناصر، وهم يصفون مشاهد تدفق الناس والتفافهم حول مذياع بقال قريتى، ينصتون لسماع خطبه الحماسية، يصفقون له عندما يتحدث عن طموحاتهم وأحلامهم، ويهتفون له وكأنهم يجلسون أمامه، أو كأنه هو الذى يسير بموكبه أمامهم، كما أننى ما زلت أتذكر بكاء الرجال والنساء عليه بحرقة يوم رحيله المباغت، ولما لا، فإنجازاته ستظل باقية خالدة، رغم محاولات محوها، وستظل قصصها محفورة خلف تجاعيد وجوه العجائز الذين عاشوا زمنه، ذلك الزمن الذى جرى فيه تطبيق العدالة الاجتماعية، وإصدار قوانين الإصلاح الزراعى، وبناء السد العالى، والقلاع الصناعية الضخمة «الحديد والصلب، ومجمع الألومنيوم، ومفاعل أنشاص الذرى والمدارس فى الريف وإنشاء الجامعات ومصانع الأسمدة ومديرية التحرير، وتأميم قناة السويس، إجلاء المستعمر البريطانى، والوحدة مع سوريا...و... و.. و.. إلخ».
لم يكن جمال عبدالناصر الذى يحتفل المصريون بمئوية ميلاده من نسل الملوك، أو منتميًا لطبقة الباشوات التى كانت تحكم البلاد وتتحكم فى العباد، لكنه كان إنسانًا بسيطًا، ينتمى لأسرة متوسطة الحال، ضاربة بجذورها فى أعماق الصعيد هى «قرية بنى مر» بأسيوط، فوالده عبدالناصر حسين، الذى تخرج فى إحدى مدارس الإرساليات، لم يكن هو أو أسرته من ملاك الإقطاعيات، لكنه مجرد موظف عادى فى مصلحة البريد، وتزوج من فتاة عادية، اسمها فهيمة الفحام، ابنة أحد التجار بمدينة الإسكندرية، هى أم جمال عبدالناصر.
لم يكن الزوج أو الزوجة يعلمان أن مولودهما الذى صرخ عندما خرج إلى الدنيا، فى ١٥ يناير عام ١٩١٨، سيجبر التاريخ على أن يتوقف عنده كثيرًا، ولا يعلمان أنه سيصبح بطلًا أسطوريًا، يجسد أحلام المصريين فى الحرية والعيش الكريم، ويوقظ نخوتهم من نومها العميق.
كثيرًا ما أجد نفسى متحفزا لتكرار الحديث عن إنجازات ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ فى أى مناسبة، ربما لحسم الجدل، فى السجال الدائر حول قضايا الشأن العام، ودائما ما يكون حسب الهوى.
الحديث عنها يسيطر على تفكيرى كلما سافرت إلى بلدتى باعتبارها نموذجا للواقع المصرى بكل إشكالياته وتعقيداته، الاجتماعية والاقتصادية، لذا أجدنى بتلقائية، أقارن بين الماضى بكل ما يحويه من أحلام بسيطة، والحاضر وما يحمله من تطلعات مستحقة، وفى كل مرة تنتهى المقارنة بالحزن على تبدل أحوال الناس وتغير طباعها، فالناس الآن لم يعد حالها كما كان حال الناس فى زمن عبدالناصر، وقتها كان الهم الوطنى يشغل بال الجميع، لا فرق بين غنى أو فقير، متعلم أو أمى، كانوا يلتفون حول ثوار يوليو، فما الذى جرى؟ ولماذا انجرف البعض خلف رؤى مشبوهة لتجار هذا الزمان ممن يزعمون أنهم ثوار؟ ألم تكن الحرب ضد الإرهاب الذى يستهدفنا همًا وطنيًا كما كان تحرير سيناء من الاحتلال؟
البسطاء الذين أتحدث عنهم، لم يكن بينهم خبير فى الشأن الاستراتيجى، مثل خبراء هذا الزمن، ولم يكن بينهم متخصصون فى تكتيكات الحرب، وليس لديهم أدنى دراية بمخططات أجهزة الاستخبارات العالمية، أو أنواع التسليح ومصادره، ولا يعرفون مواقف قطبى العالم وقتها «الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية» فقط كانوا يلتفون حول هدف واحد تحرير سيناء.
كانت تبهرنى الحكايات الممزوجة بالأساطير عن بطل خلصهم من حكم الملكية، وأتاح لهم تملك الأراضى التى كانوا يعملون فيها أجراء، وحدد لهم معالم الطريق نحو الحرية بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه، لذا سنظل نذكره باعتباره ملهمًا لحركات التحرر فى بلدان العالم الثالث والقارة الأفريقية، واستقلال الإرادة الوطنية، سنذكره عندما نتألم لأجل القدس عار العرب الأزلى، فهو سيظل حيا فى الضمير الوطنى، وسيظل حيًا فى الوجدان لأنه كشف زيف الفاشية الدينية، التى حاولت اغتياله جسديا، وما زالت تحاول اغتياله معنويا، لأنه عدوها التاريخى.
سنظل نذكر ونتذكر يوم رحيله وتشييع جثمانه فى مشهد لم يعرفه العالم من قبله، وربما لن يعرفه من بعده، فالملايين التى خرجت لم يحركهم الحزن على الرحيل، إنما حركهم الإصرار على تجاوز الانكسار، وتحرير سيناء من الاحتلال والتأكيد على أن بطلهم الأسطورى، لم يمت وأحلامهم لن ترحل معه، هذه حالة استثنائية، ربما لم تعرفها شعوب العالم على اتساع الكرة الأرضية، زعيم ترك جزءا غاليا من التراب الوطنى محتلا، ويوم تنحيه خرج المصريون بالملايين على امتداد الوطن تطالبه بالبقاء فى طليعتهم، ثقة به زعيما ملهما لهم.
هذه المتناقضات حيرت زعماء وقادة العالم الذين حضروا من كل القارات لتشييع جثمانه إلى مثواه، ألم يكن هذا كافيا للقول إن مثله لا يموت، فنحن نراه فى كل حدث، نرفع صورته فى كل مناسبة وطنية، كما أننا دائما نستدعى أحلاما دافع عنها، قضايا قومية، وقف إلى جانبها، أبعادا اجتماعية انحاز لها، سيظل بطلًا أسطوريا، رغم كل محاولات تشويهه من قبل الإخوان، فهذه المحاولات لم تنل من مكانته، بل جعلته بطلا تراجيديا، خاصة أن جاء على خلفية قيامه بوقف نزيف الدم العربى فيما عرف بمذبحة «أيلول الأسود»، يومها حاول إيقاظ العرب من غفوتهم، لكنهم تركوه، وحده يتألم.