فى مشهد من نسج الخيال.. تنادى هيباتيا على بلقيس.. يا بلقيس، سبأ تبحثُ عنكِ؛ فانهضى يا أيقونة الذكاء والحكمة.. يا أعظم الملكات.. يا مَن تجسَّدت فيها كل العصور السومارية.. فتجيب بلقيس.. يا هيباتيا، الفلسفة روح الحقيقة.. فلتنهضى أنتِ أيتها الفيلسوفة.. انهضى من أجل العلم والفكر.. وكان الهدهد يحلق قريبًا منهما، فاستمع إلى حوارهما؛ وما لبث حتى طار إلينا بنبئهما.
هناك فى الجنوب.. وقبل الميلاد بحوالى ألف عام.. عاشت الملكة بلقيس.. ملكة مملكة سبأ اليمنية.. تلك الملكة التى ألهمت قصتها شعب اليمن سيرة شعبية ذات طابع فريد.. ولعل شعب اليمن يستدعى سيرتها الآن، ويستدعى تاريخه التليد فى محنته التى يمر بها. ولبلقيس قصة مع النبى سليمان رواها القرآن، فبينما كان سليمان يتفقَّد الطير؛ فإذ به لا يجد الهدهد، ولما عاد الهدهد ذهب إلى سليمان، وقال له: «جئتك من سبأ بنبأ يقين»، بماذا جئت؟ «إنى وجدت امرأة تملكهم.. وأوتيت من كل شيء.. ولها عرش عظيم»، كما أننى وهذا لأمر عجيب: «وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون اللـه»!!
فأراد سليمان أن يتأكد من صدقه، فكتب رسالة إلى بلقيس يدعوها وقومها إلى الإيمان باللـه، وأعطى الرسالة إلى الهدهد كى ينقلها إليها.. تسلَّمت بلقيس الرسالة، وحينما قرأتها امتنعت عن أخذ قرار بشأن ما فيها حتى تستشير قومها، فاقترحوا عليها محاربته، وقالوا: «نحن أولو قوة وبأس شديد والأمر إليكِ فانظرى ماذا ترين؟».. فلم تقبل بلقيس بمبدأ الحرب؛ لأنها استشعرت قوة سليمان، واقترحت عليهم أن ترسل إليه بهدية وتنظر ماذا يفعل؟!
ولما وصل رُسل بلقيس إلى سليمان بهديتهم، أعرض عنها ولم يقبلها، وتوعدهم إن لم يُسلموا سيأتى إليهم بجنود لا طاقة لهم بردِّها.. وتستمر أحداث القصة، حتى تقرر بلقيس الذهاب إلى سليمان، ولما علم بمجيئها إليه، أراد أن يُريها آية من آيات اللـه العليم القدير.
كان سليمان يعلم أن عرشها أعجب ما فى مملكتها، فأمر بإحضاره قبل أن تصل هى إليه، فأخبره عفريت من الجن أنه يستطيع أن يأتى بالعرش قبل أن يقوم من مقامه، وأخبره رجل ممن عنده علم من الكتاب أنه يستطيع أن يأتى به قبل أن يرتد إليه طرفه، فلما رأى سليمان العرش مستقرًّا عنده، ذكر نعمة اللـه عليه وفضله، بأن جعل أحد جنوده قادرًا على إحضار عرش بلقيس من اليمن إلى الشام فى طرفة عين.
ثم أمر سليمان بإدخال بعض التغييرات على العرش؛ ليرى هل ستهتدى بلقيس إليه أم أنها من الذين لا يهتدون؟.. ولما جاءت إلى سليمان، ووقع نظرها على العرش، أشار إليه وقال لها وهى تتأمله: أهكذا عرشك؟.. قالت بلقيس فى دهشة: كأنه هو!!
فمن شدة ذكائها وحكمتها لم تجزم فى أمره؛ فقالت: كأنه هو؛ فقد نظرت إلى العرش فرأته عرشها وليس بعرشها فى الوقت ذاته، وتساءلت: إذا كان عرشها، فكيف سبقها فى المجيء وقد تركته فى اليمن؟! وإذا لم يكن بعرشها؛ فكيف أمكن تقليده بكل هذه الدقة الفائقة؟! ولكنها حينما أدركت أنه عرشها، لم تتردد فى الإيمان وقالت: أسلمت مع سليمان للـه رب العالمين.
هذه قصة امرأة سادت قومها، واتسمت بالحكمة والذكاء، فلم تُورد قومها مهالك الحرب، لعلمها أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وفى الوقت ذاته لم تخضع لسليمان قبل أن ترى منه براهين الإيمان، وحينما رأتها عين اليقين، لم تكابر وأعلنت الخضوع للـه.
وهكذا يمتلئ التاريخ بنماذج من أولئك النساء اللاتى أُعطين الملك والعلم والحكمة ومن قبلها الذكاء.. فى مقال قادم سوف آتيكم بنبأ الهدهد عن هيباتيا.