لماذا فشل التجديد؟
قلنا من قبل إنّ الاختلالات التى طرأت على فقه العيش وترتيباته فى المجال الإسلامى نتيجة المتغيرات الهائلة والعاصفة، جرت الاستجابة لها على مدى قرنٍ وأكثر من خلال محاولاتٍ متواليةٍ للتجديد فى فقه الدين. وقد اعتبرتُ المحاولات الخمس التى لخّصتُ أفكارها الرئيسية أهمَّ تلك المشروعات أو لنقل الاستجابات. بيد أنّ النجاح أو الاستتباب لم يحالف معظمها لأنها واجهت تحدياتٍ كبرى داخلية وعالمية، ولأنها فى معظمها عملت من منطلق الأزمة الحضارية، ولكنها ما اقترحت رؤيةً شاملةً لمواجهة تلك الأزمة. ولأنها كانت جزئيةً فى استنتاجاتها وحلولها. ولأنّ الأصوليات والإحيائيات طرحت فى مقابلها رؤيةً شاملةً للدين فى ماهيته وأدواره ووظائفه حظيتْ بتأييد نُخَب فكرية ودينية على مدى أربعة عقود.
لقد أتت التحديات فى البداية والنهاية من جهتين: السياسات الدولية، والتى أدت فى طغيانها وهول آثارها إلى اعتبار الجمهور ومثقفيه كلّ محاولة فكرية أو سياسية للانفتاح، بمثابة استسلامٍ أو تآمُر- وأنّ التجديدات الجزئية التى طرحها مفكرون أفراد، ما لقيت فئاتٍ أو مدارس أو مؤسسات حاملة ومطوِّرة، مثلما حدث فى المذاهب الفقهية أو الكلامية فى القديم على سبيل المثال- وأن الدول الوطنية الجديدة والتى بدأت بالظهور بعد الحرب الأولى، ما وجدت عُمُرًا وزمنًا للنجاح على مستوى تكوين المؤسَّسات، ومستوى العلاقة المستقرة بالجمهور. وعندما كان ذلك كله يحدث مما بعد الحرب الأولى وحتى الستينيات من القرن العشرين؛ كانت الإحيائيات والأصوليات تنمو وتمتد بين الجمهور، وتشتغل على فقهٍ جديدٍ للدين أيضًا، يواجهُ متغيرات فقه العيش؛ ومن ضمن ذلك مواجهة العالم باعتباره معتديًا على الدين وعلى الناس. ويمكن تركيز ذلك الوعى المحبط والثائر والمتأزم فى عدة نقاط:
- أنّ هناك مؤامرةً على الإسلام والأمة، ومن ضمنها السلطات الوطنية التى بدأت تتكون فى أوساط النُخَب المدينية، وتحاول المزاوجة بين الكفاح السياسى والشعبى ضد الاستعمار، وإقامة المؤسسات والممارسات المعتادة فى دول الغرب الحديث.
- أنّ «الشرعية» السياسية لأى نظامٍ لا تستند وحسْب إلى تأييد الجمهور، بل لا بد أن تكون أمينةً للهوية الإسلامية للمجتمع.
- أنّ الإسلامَ دينٌ ودولة. وهكذا فإنّ الدين الإسلامى يملك مشروعًا سياسيًا لا بد من إحقاقه باعتباره ركنًا من أركان الدين. وعلى مدى أربعين عامًا وأكثر ظهرت أدبياتٌ هائلةٌ عن النظام الإسلامى الكامل فى الاقتصاد والقانون والاجتماع والسياسات الداخلية والأُخرى الخارجية. وصار ذلك كله متركزًا فى ضرورة «تطبيق الشريعة» من أجل استعادة الشرعية للدولة والمجتمع، فتضاءلت إلى حدود الاختفاء الرؤية الإنسانية والكونية للدين، لصالح ربطه بإقامة نظام سياسى من جهة، ومصارعة العالم من جهةٍ أُخرى!
- أنّ الحائل دون إقامة الدولة الإسلامية الشرعية السلطات الداخلية المتغربة، والنظام الدولى الحامى لها. ولذلك ينبغى الكفاح ضد الطرفين بشتى الوسائل؛ لأنّ الدين معرَّضٌ للخطر، وكذلك المجتمعات!
- أدّت الحرب الباردة التى زادت من الاستقطاب، إلى إفادة حركات «الصحوة» هذه من جوانبها الثقافية والأمنية والعسكرية؛ بحيث تغلغلت الصحوات فى الأوساط الاجتماعية، وبحيث نجحت فى تحطيم الدولة الوطنية فى إيران، وإثارة اضطرابات باسم الدين فى مجتمعاتنا ومجتمعات العالم، وذهبت للقتال فى أفغانستان، وصارت لها تجاربها القتالية التى زادت من طموحاتها.
وما مورس التفكير النقدى من جانب الإصلاحيين فى بحث المفهوم الجديد التحريفى للشريعة، ولا فى صحة مقولة الإسلام دين ودولة، ولا فى أنّ النظام السياسى ليس ركنًا من أركان الدين. وإنما كان هناك تركيزٌ من جانب الإصلاحيين على تحريم العنف بالداخل، ومطالبة الدول بالفعل بتطبيق الشريعة!
السردية الجديدة ومقولاتها:
إنّ الوضع الخطير والمتمثل فى تحول الإسلام إلى مشكلةٍ عالمية، وتهديد الانشقاقيين للدول الوطنية ولوحدة المجتمعات، ولبقاء الدين على سكينته باعتباره العاملَ الرئيسى فى ثقة الناس ببعضهم، وثقتهم بربهم وأوطانهم، وعلاقاتهم ببنى البشر؛ كلُّ ذلك يقتضينا الذهابَ باتجاه سرديةٍ جديدةٍ فى الدين وللدين، تتجاوز تجديد الخطاب فيما يتعلق بالعنف تجاه النفس والغير فقط، وتجترح فلسفةً جديدةً للدين، وسلامًا مع النفس والعالَم. وتقوم هذه السردية التأويلية الشاملة على ثلاث مقولات أساسية:
المقولة الأولى: أنّ القيمة العليا فى علاقة الله سبحانه ببنى البشر هى قيمةُ الرحمة. وهذا ظاهرٌ وواضحٌ فى مثل قوله تعالى:{ورحمتى وسعت كل شىء}. وقوله: {كتب على نفسه الرحمة}، وقوله: {وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين}. ولا أريد هنا الإكثار من إيراد الآيات التى يرد فيها مفردة الرحمة أو فعلها؛ إذ لا يكاد يفوقها أو يماثلها فى ذلك فى القرآن إلاّ مفردة المعروف. وفى كتابٍ حديث الصدور لأنجليكا نويفرت، الباحثة الألمانية الكبيرة فى دراسات القرآن، توردُ ستة عشر مفردة لها معنى الرحمة فى الكتاب المُبين، مما يدفعها للذهاب إلى أنّ القرآن بين الكتب المقدسة، هو كتابُ رحمةٍ بالفعل. وهكذا؛ فإنّ هذا الواقع ليس اكتشافًا من جانبي؛ بل إنّ المتكلمين المسلمين فى العصور الوسطى اختلفوا عليه أو اختلفوا فى تراتُبية القيم؛ فقالت المعتزلة إنّ القيمة العليا فى الدين هى العدل؛ بينما ذهبت الأشعرية إلى أنّ القيمة العليا هى الرحمة. وفى سياق الجدال الذى استمر قرونًا اضطرت المعتزلة إلى إدخال اللطف الإلهى إلى جانب أصل العدل، لتواجه بشكلٍ أكثر إقناعًا مقولة الأشعرية فى الرحمة والعناية والفضل. وبالطبع؛ فإنّ سياقات القرون الوسطى مختلفةٌ كثيرًاعن سياقاتنا المعاصرة. فقد كانت المعتزلة تريد بأصل العدل الدفاع عن حرية الإنسان فى ممارسة أفعاله، لكى يمكن اعتباره مسئولًا عنها بالإثابة أو العقوبة إنْ خيرًا أو شرًا. بينما كانت الأشعريةُ تريد الدفاع عن مبدأ تفرد الله عزّ وجلّ بالخَلْق، وتعتبر الفعلَ الإنسانيَّ كسْبًا. وفى كل ديانةٍ من أديان التوحيد هذان المذهبان: مذهب الرحمة، ومذهب العدل، كما بين أوغسطينوس وتوما الأكويني. ولذا فلسْتُ أزعُمُ أنّ الأمر اكتشافٌ من جانبي، ولكنها القراءة التأويليةُ التى تغيّر من فلسفة الدين، ومن رؤية العالم.
ثم إننى لستُ أزعُمُ أنّ هذه الرؤية هى من دون مُشكلات، وخصوصًا إذا جرى تأمُّلُها فى ضوء مقولات علم الكلام الوسيطة، والمنظومات الفقهية، وبعض ظواهر القرآن- وهذا إلى الفصامات التى أدخلتها الأصوليات المعاصرة. إذ أين نذهب بحصرية الحقيقة فى الدين أو الخلاص، والتى يصرُّ عليها التيارُ الرئيسى فى اليهودية، ولا تزال مشكلةً كبرى فى الكاثوليكية رغم مجمع الفاتيكان الثانى (١٩٦٢-١٩٦٥) ومقرراته. أمّا فى البروتستانتية فما ظهرت فيها على كثرة فرقها مقولة قوية تتخلى عن حصرية الحقيقة. ثم هناك بعض السُوَر القرآنية مثل سورة براءة، وبعض الآيات فى سورة الأنفال وغيرها، تحتاج إلى قراءاتٍ جديدةٍ فى المفردات والسياقات للتلاؤم أو الاندراج فى هذه المقولة الكبرى.
إنّ مقولة الرحمة راجحة بل مؤكدة باعتبارها فلسفةً للدين الإسلامي، والرؤية فيه اعتبار تلك القيمة تمثّل علاقة الله بعباده. وقد صرّح القرآن بذلك فى وصف رسالة رسوله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه. وقد قلتُ إنّ المتكلمين أدركوها على تردد وفى سياقاتٍ أُخرى. ثم لننظر هذه المقولة الشاملة باعتبار الله سبحانه خالقًا لسائر البشر، وهو الرحمن الرحيم، فكيف لا تنالُ رحمته سائر مخلوقاته. ولننظر أيضًا فى هذه النزعة لبعض المتكلمين الذين يقولون بفناء الجنة والنار. يقولون ذلك طبعًا لأنه يبقى وحسب وجه ربك ذو الجلال والإكرام. ولكنّ الفلسفة من وراء ذلك أنه حتى فى الآخرة، ليست هناك عقوبة أبدية؛ لأنّ رحمة الله سبحانه سبقت غضبه كما جاء فى الحديث القدسي.
إنّ الإيمان يفعل العجائب عند المسيحيين وعند أهل السنة. ولذلك تتراجع قيمة الأعمال الصالحة فى هذه النقطة؛ لا من حيث ضرورتها، بل من حيث إنّ تخلُّفها لا يؤدى إلى زوال الإيمان؛ لأنّ الأمل بالتوبة، والأمل برحمة الله وتسديده يظلُّ قويًا وقائمًا.
وبالنظر لكل هذه الاعتبارات الإبستمولوجية واللاهوتية والتأويلية لا بد من الاتجاه لاستكشاف هذه الإمكانية الجديدة فى الدين وللدين. ثم إننا نستطيع القول بتهيبٍ واستغاثة إننا نحن المسلمين اليوم من بين كل أهل الأرض محتاجون إلى رحمة الله وعنايته، وإن لم نلتمسْها فى ديننا ولديننا فأين نلتمسُها؟
إنّ الرحمة، هى معنى ومعيار العلاقة بين الله سبحانه وبنى البشر. ويفضّل الصوفية أو بعضهم المحبة أو الرضا. والذى أراه أنهما وجهان من وجوه الرحمة التى لا تكاد تنحصر.
وهذا الأمر أو المذهب يقول الكثير عن طبيعة الدين باعتباره دين سلامٍ مع نفسه ومع العالم.