كان معنا فى لقاء الأقصر الدولى للثقافة الشعبية والتعليم، يمشى الهوينى رفقة عكازه قاطعا مسافات يومية مفروضة من غرفته بالفندق وحتى حافلة تنقلنا لقصر الثقافة بالمدينة، ثم هى المسافة الممتدة بين قاعة الملتقى وصالة استراحة (بعضهم تململ للذهاب إليها لأجل كوب شاى أو قهوة) لجلسات مرهقة صباح مساء– من العاشرة وحتى السابعة مساء- لا كلل يبدو عليه ولا شكوى ولا تطلب، كنت أتأمل ذاك الأستاذ الثمانينى المنتعش الآمل، وكأنه ابن للغد، أكبر الحضور سنًا، فى ملامحه رضا وراحة وكأن لم يشغله شاغل فى حياته، ابتسامة حيية واسعة تنفلت من قلبه قبل شفتيه لكل تحية وإشارة مودة تصل إليه ممن عمروا الفندق أو لقاءات قصر الثقافة.. جالسا بانتباه ممسكا بمدونة مُنحت لنا بحقيبة الملتقى مسجلا ملاحظاته، ما تبينتهُ أيضا فى بعض صور تلقيتها من أساتذة زملاء عبر الأيميل ليؤكدوا لى شخصه حين تفاجأت أن هذا هو من توفى عقب أسبوع من انتهاء لقائنا!.
أما ما جرى وكان فإننا لو تمعنّا وراجعنا أيام الجلسات البحثية فإنه كان فى طليعة النشطين المناقشين الذين مثلوا إضافة معرفية، طارحين أسئلة تسبر وتبحث فى المتن، بدا فيها مثقفا ومختصا مشبعا بالمجال، ساعة قدم ورقته بدأ بالإشارة إلى تجربته المبكرة فى الجمع الميدانى ما ضمتها كتبهُ، ومنها أنه ومرافقين من تلاميذه نزلوا بمعسكر حربى شغلوا ما يشبه الدارة فيه، وكانت غير مجهزة، بل إن بها دماء لجنود مصريين جرحى ما زالت تملأ المكان، فما كان منهم إلا أن نظفوا المكان بأنفسهم فرحين بما ظفروا، واستقروا به كمقامة ومبيت، وأنجزوا مهمتهم رغم الظروف المحيطة بمنطقة الجمع التوثيقي، أتذكر أنى طلبت إذنا بمداخلة بعد تقديمه لبحثه، ودعوت لأن نعتنى بأساتذتنا المرجع والخبرة والاستشارة فى طرائق الجمع الميدانى، وبأن نخصص فى مؤتمراتنا جانبا فى برنامج الجلسات لهم نسمع سيرتهم فى ذلك، كما ويجرى توثيق وإخراج ذلك ضمن كتاب المؤتمر المرفق بالبحوث التى اعتمدت، يومها جالسته على طاولة العشاء بمطعم الفندق وقد تناول وجبة خفيفة من شربة خضروات، ثم فاكهة، وبأبويته الحانية بثنى بعضا من حكاياه وتشجيعه لطلابه ومشروعه لكتابه المقبل، وأنا أغادره لغرفتى ذَكّرنى فى جملة نصيحته بما شجعنى على الاستمرار به من علاقة بالأدب الشعبى ما قاله شاعر الشباب الليبى الراحل على صدقى عبدالقادر معلقا فى مداخلته لمحاضرتى حول الحكاية الشعبية الليبية فى الجنوب الليبى ممثلة بواحة براك: «علينا أن نشجع من يجمع ويوثق ويبحث فى محيطه وما يعرفه، فلو تخيلنا أن يتصدى كل طالب علم جمعا وبحثا فى حياضه لنا أن نحصل على مخزون كبير من إرثنا وذاكرتنا الشعبية الليبية»، مؤكدا بذلك أمل وحلم المفكر الليبى الصادق النيهوم فى إحدى مقالاته المبكرة عن الجامع الجوال فى واحات ليبيا.
ذلك هو د. فاروق أحمد مصطفى (الإسكندرية ١٩٣٨) من غادرنا فى فقد عزيز- رَحمهُ الله- عقب أسبوع من ملتقى الأقصر الدولى ديسمبر ٢٠١٧- المقالان السابقان عنه– وكأنه يودعنا ويختتم حياته بذلك الجهد المُفارق، ومن يطالعُ سيرته الدؤوبة منذ مطلعها طالبا دارسا بجمعه التخصصى بين الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والخدمة الاجتماعية ثم توالت إصداراته المهمة التى تقارب ١٥ كتابا بحثيا فى موضوعات منها: الموالد، الأسواق، الأنثربولوجيا الطبية، الدين والفولكلور، الحكاية الشعبية، النوبة.. يستشعر مدى أثره وفعاليته وما سيجعل ذكره ممتدا وباقيا.
خبر محزن نقلته إلى الصديقة الباحثة سعيدة بوعزيزى من المغرب بفقدنا لقامة مبرزة فى مجالها الدكتور فاروق أحمد مصطفى.