أهدى يوسف السباعي كتابه "أرض النفاق" إلى نفسه.. على عكس ما هو متبع في إهداءات الروايات والكتب من إهداءٍ إلى حبيبٍ أو قريبٍ أو عظيمٍ.. أو تزلفًا إلى مسئول.
قال "السباعي" في إهدائه: "إلى خير من استحق الإهداء... إلى أحب الناس إلى نفسي.. وأقربهم إلى قلبي .. إلى يوسف السباعي.. ولو قلت غير هذا... لكنت شيخ المنافقين... من أرض النفاق".
وكان مما قاله الأديب الأريب الراحل تعليلا لذلك في مقدمة كتابه "أرض النفاق" التي تلت الإهداء: ".. أني أود أن أكرم نفسي وهي على قيد الحياة.. فلأشد ما أخشى ألا يكرمني الناس.. إلا بعد الوفاة.. ونحن شعب يحب الموتى.. ولا يرى مزايا الأحياء حتى يستقروا في باطن الأرض.. إني أريد كل شيء.. أريد ما بالدنيا وأنا في الدنيا.. أما الخلود.. والذكرى.. والتاريخ.. فما حاجتي إليها وأنا عظام نخرة.. تثوى في قبر بقفرة.. ما حاجتي إلى تقدير الأحياء.. وأنا بين الأموات؟.. ما حاجتي أن يذكروني في الدنيا وأنا في الآخرة !! ويمجدوني في الأرض وأنا في السماء.. إني أبغي المديح الآن.. والتقدير الآن.. وأنا أسمع وأحس.. فما أمتعني شيء كسماع المديح والتقدير.. قولوا عني مخلصين وأنا بينكم.. إني كاتب كبير قدير شهير.. وإني عبقري.. ألمعي.. لوذعي.. فإذا مت فشيعوني بألف لعنة، واحملوا كتبي فأحرقوها فوق قبري، واكتبوا عليه: هنا يرقد أكبر حمار.. أضاع عمره في لغو وهذر".
اقتبس توفيق الحكيم روح الدعابة التي تميز بها "السباعي" فقال مداعبا الأديب الشاب وقتها –السباعي- قائلًا: "هل يسمح لنا يوسف السباعي أن نقول عنه في حياته ما نرغب في أن نقوله بعد مماته".
في الأحياء الشعبية.. حين يموت بغيضًا.. ويثنى عليه الناس في عزائه.. لا سيماء "العجائز" إلا قليل صامت وبعد العزاء يخلص بعضهن نجيا.. ويتداولن المثل الشهير في الأحياء الشعبية "بعد ما راح المقبرة حطوا على رأسه سكرة"، وهي تبسيط شعبي "منحرف" للمقولة الشهيرة "أذكروا محاسن موتاكم".
في مقال لصلاح عبد الصبور بعنوان "شاعر عظيم قتله النقاد.. وضعها بين حنايا كتابه "أصوات العصر" كتب عن الشاعر الروسي "فلاديمير مايكوفسكي" الذي انتحر بسبب آراء النقاد المهاجمة له.. التي لم تنصفه يوما.. رغم اعترافهم بعظمته بعد ذلك.. حتى أن الاتحاد السوفيتي أطلق اسمه بعد وفاته على أحد أكبر مدن جورجيا.. كتب "عبد الصبور" يقول: وفي كل مرة كان يعود الشاعر (من سفره) ليجد حملة النقاد أقسى وأشد، وصراخهم يملأ الجو بالضغينة، والتجريح، وعرف "ماياكوفسكي" ألا مكان له في وطنه وأن دوره قد انتهى، فانتحر".. كان الأمر اسقاطًا من "عبد الصبور" على نفسه.. فلم يواجه شاعر عربي بنقد وانتقاد وانتقاص مثلما حدث معه.. حتى أن "العقاد" قال حين ذُكر "عبد الصبور" بين يديه: "هذا ناثر مشعور".. أي مجنون يكتب النثر لا الشعر.
في خطاب انتحاره يقول "فلاديمير مايكوفسكى":"لقد تحاسبت مع الدنيا.. ولا فائدة من تعداد الآلام المتبادلة.. المصائب.. والإهانات.. أتمنى لكم السعادة والبقاء".. وقبل ذلك كتب ضمن قصائده: "أريد من وطني أن يفهمني، ولكن إذا فشلتُ في ذلك.. ماذا بعد؟ سأمر في موطني الأم إلى طرف واحد مثل وابل من المطر".
قدمت إحدى الزوجات في روسيا لأسرتها وقت الطعام "برسيم".. ثار الزوج والأولاد.. قالت لهم هادئة.. منذ عشرين عاما أطبخ لكم الطعام ألوانًا وأشكالًا".. لم أسمع كلمة شكر أو مدح أو تقدير.. كأنكم لا تعرفون أو تفرقون أو تذوقون ما تأكلون.. فلتأكلوا "برسيما".
ما حاجة الناس إلى المدح بعد الموت.. والذم والانتقاد في حياتهم.. تذكروا قول يوسف السباعي "أنا أبغي المديح الآن".. واذكروا محاسن أحيائكم.