تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
أعترف أن للدكتور يوسف زيدان قدرة خاصة على سرقة الألباب بحبال ممدودة من معلومات غابت عن الأذهان فى ظل حياة مزدحمة التبست فيها الأشياء وتداخلت، أو باستنتاجات من عنده تدعو للتأمل أحيانًا ولكنها فى أحيان أكثر تدعو إلى الدهشة والنفور والاستنكار، وحين تشاهده يتحدث قد تلمح فى صوته.. فى عينيه.. فى حركة يديه ما ينم عن ثقة زائدة بالنفس قد تدنو من الغرور والزهو بما لديه من معارف، وهذا لم يكن أبدًا من شيم أسيادنا من المحبين العارفين الواصلين الذين نلمح طيف إعجابه وشغفه بهم بين سطور ما يكتب أو يقول، وفى الآونة الأخيرة كثر الجدال حول الرجل بعد عدة تصريحات متتالية له نالت من شحصيات تاريخية استقرت فى وجداننا بصورة ذهنية معينة، جعلتنا نفاخر بها العالم عبر قرون مضت كصنوه «يوسف» الملقب بصلاح الدين، أو كالوطنى الثائر أحمد عرابى أو كالزعيم جمال عبدالناصر، وتعدت تصريحاته عن الشخوص إلى الأماكن والأحداث، كالقدس ومكان الإسراء، وأخيرًا السلام مع إسرائيل، وقد أدى هذا الجدل إلى حد اتهامه بالخيانة والعمالة والتآمر، وهو الاتهام الذى تبادلناه فى مصرنا الحبيبة منذ أتى الخريف العربى علينا يختال بحلته الصفراء الباهتة وبغيومه وأمطاره ورعده وبرقه الذى أخرج أسوأ ما فينا فجعلنا نتصيد أخطاء بعضنا، واتهام الخيانة والعمالة لا يصح فى رأيى إعادة ترديده إلا بوثائق وأدلة، وعلى مالكها أن يذهب بها فورا إلى النائب العام، أما الاتهامات المرسلة فهى خير دليل على ضعف حجة قائلها وعجزه عن الرد فى الموضوع فيلجأ إلى كيل الاتهامات دون سند أو دليل، بينما كان من الأولى على من ادعى ذلك أن يرد على آراء زيدان كما فعلنا ذلك فى عدة مقالات سابقة فى نفس هذه الصفحة حين أكدنا وطنية وإخلاص عرابى، وكيف أنه واجه خديو مصر بطلبات الجيش والأمة وتحول إلى أيقونة عند أبناء الفلاحين الذين كانوا يأملون فى ترقى أبنائهم إلى أعلى المناصب فى زمن لم يكن للمصريين أن يتفوهوا بكلمة ضد الحاكم المعين بقرار من الباب العالى، وهناك من يتهم زيدان بمغازلة الغرب بغية نيل جائزة نوبل فى الآداب، ولست أظن ذلك لأن تواضع فنياته الأدبية لا تؤهله للترشح للجائزة، ولو أن الأمر يتم بالتطبيع مع إسرائيل لكان «على سالم» رحمه الله قد نالها، ولكنه يشترك مع بطل مقالنا اليوم فى كونهما قد قاما بإعادة تقديم أساطير قديمة فى شكل روائى - كما عند زيدان - أو بشكل درامى كما عند سالم، وأكثر ما يميز الكاتب الأدبى كما يرى الألمانى «دورنمات» هو خلق الأسطورة وليس إعادة تدويرها، وهذا نراه جليًا فى أعمال العظيم نجيب محفوظ، الذى نسبح بعبقريته أساطير جديدة أضيفت لتراثنا وبالتالى لتراث البشرية ولم يعتمد فى أغلب أعماله على تراث قديم أو أساطير موجودة بالفعل، فالثلاثية والحرافيش فى واقع الأمر هى عوالم صنعت من خيال، لكنها تحولت من فرط حبكتها إلى تراث كأنه قد حدث بالفعل، ومحفوظ فى معظم رواياته يفعل ذلك وهو قلما يلجأ إلى الميثولوجيا الفرعونية، على عكس على سالم الذى لجأ إلى الأسطورة اليونانية فى أشهر أعماله الدرامية «انت اللى قتلت الوحش» والتى لا تؤهله بأى حال من الأحوال إلى الترشح للجائزة، ونفس الشىء ينطبق على زيدان، فعزازيل أشهر أعماله الروائية هى إعادة صدى لتراث قديم وليس ابتكارا لأسطورة جديدة، صحيح أنه حملها بأفكاره وفلسفته إلا أن هذا لا يشفع له، فجائزة نوبل تمنح للأديب الذى ابتكر وخلق وأضاف للإنسانية، ومهما قال الشخص ومهما فعل فلن يتم ترشيحه لمثل هذه الجائزة دون نتاج أدبى متفرد، وهذا يدفعنى للقول بأن الرجل يقينًا لا يفكر فى الجائزة أو غيرها حين يطلق أغاريده بين الحين والآخر، ولكنه فى ظنى يهوى الاختلاف وهذا حقه، فمن الظلم البين أن نحمل فى أيدينا خناجر لاغتياله ألف مرة كلما نطق بكلمة أو عبر برأى، فنحن بذلك لا نختلف عن الإرهابيين الذين ينتصرون لفكرة واحدة يؤمنون بها ويرفضون وجود أى أفكار أخرى، بل يسعون إلى قتل أصحابها، فمن حق الدكتور زيدان أن ينتقد صلاح الدين أو عرابى أو عبدالناصر ومن حق غيره أن يرد، فالرجل لم يرتد عباءه النبوة كى ينزه نفسه عن الخطأ، ولو أن مفكرا أو أزهريا ناظره فانتصر عليه لوجدت الرجل يعتذر عما بدر منه.
وهذا هو حال الكبار، وكم من مفكر وكم من عالم تراجع عما آمن به لسنوات، ولكم فى الشافعى عبرة،أما ما أثير مؤخرًا بسبب تصريحات زيدان عن السلام مع إسرائيل، فالأمر يحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس، وصولًا إلى جواب نهائى لسؤال قديم نسد آذاننا عنه ونتجاهله، وإذا أثاره أحدنا اتهمناه على الفور بالعمالة والخيانة.. وهذا السؤال هو هل نحن نريد السلام حقًا أم لا؟ ألم يوافق الشعب فى استفتاء رسمى على مبادرة السلام، ألم نفوض الرئيس الراحل أنور السادات فى المضى قدما نحو إتمام الاتفاقية؟ ودعونا نعرج إلى ماهو أبعد لنتساءل، ألم يجلس العرب مع قادة إسرائيل فى رودس باليونان عقب نكبة ٤٨؟ ألم يكن التوقيع على هذه الاتفاقية بمثابة الاعتراف بوجود إسرائيل؟ وهل موافقة العرب فى ٦٧ على قرار الأمم المتحدة ٢٤٢ لا يعنى ذلك أيضا؟ وفى مدريد وأوسلو وفى قمة بيروت ٢٠٠٠ ألم يعلن العرب اعترافهم الكامل بدولة إسرائيل وحقها العيش على حدود الرابع من يونيو؟ فإذا كان كل هذا قد حدث فلما نرفع سيوفنا فى وجه كل من يتحدث عن السلام ونتهمه بالخيانة وننساق وراء مجموعة من فلول الشيوعية الذين كرهوا السلام لكرهم السادات والذين يحاربون بكلماتهم العنترية تماما كالمتأسلمين الذين يدعون رفضهم السلام، فيا دكتور يوسف أعرض عن هذه الأقوال التى تثير الرياح حولك.