رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القيم.. حقائق دينية أم حاجات اجتماعية؟ "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مبحث القيم أو «الأكسيولوجيا» Axiology يضم مذاهب الفلاسفة فى صنوف القيم وطبيعتها ومقاييسها ومنزلتها من الفلسفة، والفلسفة تدرس القيم المطلقة أو النهائية وهى الحق (أو الصدق) Truth، والخير Goodness والجمال Beauty، وهنا تثار عدة أسئلة يمكن إجمالها على النحو التالي: هل هذه القيم مجرد أفكار فى ذهن الإنسان، أم أن لها وجودًا خارجيًا مستقلًا عن الشخص الذى يدركها؟ وما مقاييس الحق، ومقاييس الخير، ومقاييس الجمال؟ متى نقول إن هذا التفكير صادق، وإن هذا السلوك خيـِّر، وإن هذا الشيء جميل؟ ما الشروط التى ينبغى توافرها فى هذا الشيء حتى نصفه بهذه الصفة أو تلك؟ هذه القيم الثلاث تدرسها علوما فلسفية خاصة هي: الحق (الصدق) موضوعه يدرسه علم المنطق، محاولًا أن يصل إلى الشروط التى ينبغى مراعاتها لكى يكون التفكير سليمًا. واختلف الباحثون فى فهمهم لطبيعة «الحق» وتصورهم للمقاييس التى يمكن استخدامها فى التمييز بينه وبين الباطل.
أما الخير، فيدرسه علم الأخلاق فى محاولة أخرى للوصول إلى القواعد التى ينبغى مراعاتها لكى يكون السلوك خيـِّرًا، ويتخذ البحث فى مفهوم الخير- بوجه خاص- صورة اختيار للطبيعة العامة والأنواع الخاصة للفضيلة والسعادة (أو اللذة)، والوسائل المؤدية إلى تحقيق هاتين الغايتين؛ بمعنى اختبار مختلف أنواع اللذة والألم ومعرفة درجاتهما المتباينة، وكذلك تحديد طبيعة الفضائل المختلفة أو صفات الخلق الخيرة وأضدادها، ومعرفة العلاقات المتبادلة بينها. كما يعنى الخير أيضًا، كل فن وكل فحص عقلي، وكل فعل واختيار يرمى إلى خير ما، أى أن خير الإنسان بوصفه موضوع اختيار أو مقصد مبعثه التفكير؛ وهو مختلف عن الدوافع التى لا تعدو أن تكون حسية ووجدانية. ومن هنا كان البحث فى «الخير» والمقاييس التى تُضْطلع فى التمييز بينه وبين الشر مكانه الملحوظ فى التفكير البشرى منذ أقدم العصور، واتسعت شقة الخلاف بين الباحثين فى تصورهم لطبيعة «الخيرية» ومقاييسها، فقد رأى البعض أن «الخيرية» تطلق على ما يتصف به كل موجود من الكمال، فكل كائن ينزع بطبعه إلى كماله الذى هو خيرية هويته. كما تعنى «الخيرية» صفة للشخص الإنسانى أو صفة الشيء الخارجي، فإذا أطلقت على الإنسان دلت على من يحب «الخير» ويفعله، أو على من يشعر بآلام الآخرين ويدفع الأذى عنهم؛ ويرغب فى تحقيق سعادتهم. وإذا أطلقت على الشيء الخارجى دلت على ما يتصف به ذلك الشيء من الكمال الخاص به، أو على ما يجده الإنسان من اللذة والمنفعة فى الحصول عليه. و«الخيرية» بهذا المعنى مرادفة للصلاح والطيبة والمنفعة، كقولنا: «خيرية» الفعل أى صلاحه، و«خيرية» النفس أى طيبتها، و«خيرية» العلم أى منفعته. ولا شك أن «الخير» بمفهومه العام يعادل مفهوم «القيمة» أى يهتم بأهداف السلوك أو غاياته المثلى، ويكشف ما ينبغى السعى إليه، أى إلى ما هو «خير» أو ما له «قيمة».
والجمال، يدرسه علم الجمال ليحدد لنا الخصائص التى ينبغى توافرها فى الشيء لكى يكون جميلًا. وعلينا أن نلاحظ أن كلمة «ينبغي» هنا تعنى أننا لا ندرس ما هو كائن، ولكننا ندرس ما ينبغى أن يكون. ولهذا وُصفت هذه العلوم الثلاثة بأنها معيارية Normative. أعنى أنها تحاول أن تضع المعيار أو المقياس الذى تقيس به التفكير الجيد والسلوك الخيـِّر والشيء الجميل. ومن هنا تختلف عن العلوم الوضعية التى تصف ما هو قائم أمامها بالفعل فحسب، أو تدرس ما هو كائن أو ما هو موجود دون أن تتخطاه إلى ما ينبغى أن يكون. إن علم الجمال يأخذ على عاتقه القيام باختيار نقدى لاعتقاداتنا المتعلقة بأمور مثل: ما طبيعة الفن الجميل؟ وما الذى يميز الفنان المبدع عن غيره؟ وأى من التجربة يُعد تذوقا فنيا؟ ولماذا كانت التجربة الفنية تجربة قيمة؟ وما المعيار الذى يمكن أن نستند إليه فى حكمنا على الفن؟ لا شك أن مثل هذه التساؤلات هى ما دعت إلى قيام علم الجمال أو فلسفة الجمال Aesthetics.
ومن هنا، فإن التقسيم الثلاثى للقيم البشرية الكبرى (الحق والخير والجمال) مبنى على نظرة متكاملة إلى الطبيعة الإنسانية الروحية التى لا تكتمل إلا إذا كرس الإنسان حياته من أجل اكتساب الحقيقة فى العلم، وتوخى الخير فى التعامل مع الغير، وبحث عن الجمال فى الطبيعة والفن. وهكذا كانت القيم الثلاث تناظر ثلاثة أنواع رئيسية من النشاط الروحى للإنسان: العلم والأخلاق والفن. وإذا كانت ضروب النشاط هذه جديرة بسعى الإنسان واهتمامه حتى تتكامل شخصيته، فإنها تعبر- فى الوقت ذاته- عن ثلاثة مسالك متباينة، لكل منها طابعه الخاص، مع تضافرها جميعًا فى تكوين شخصية الإنسان.