تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
لم يكن مجرد رئيس تحرير عملت معه طوال ٥ سنوات بجريدة «القاهرة» «٢٠٠٠– ٢٠٠٥»، ٩ شارع حسن صبرى الزمالك، لذلك العنوان وقع فى النفس لا يدركه إلا من عمل كتلميذ فى حضرة صلاح عيسى.
اسمه لا يحتاج لألقاب تعرفه، فهو للثقافة صانع، وللصحافة هو أحد أرفع وأرقى مدارسها، وفوق ذلك هو الأستاذ الأب الذى لا يضن على تلاميذه وأبنائه بكل ما يمتلكه من مخزون معرفى وثقافى ومهني، وزد على ذلك دروسه فى كيف نهذب ضميرنا الصحفي؟ وكيف نمارس مهنتنا بأخلاق تليق بصاحبة الجلاله؟
كنت واحدا من أولئك المحظوظين الذين تعلموا فى «كُتّاب» صلاح عيسى، أقول «كُتّاب» لأننى وبفخر تعلمت معظم ما تعلمته من فنون الصحافة بين يدى هذا الرجل الرائع. وكنت أعمل بحرية لا محدودة فتحت فيها كل مساحات الخطأ والصواب ولم يكن فظا غليظا، وإنما عذبا رقيقا فى تصحيحه الخطأ وعتابه إلا إذا تكرر، حينها تظهر شدة الأب الحريص على تعلم ابنه.
أكثر ما كان يغضبه أن يكون الخطأ متعلقا بالخلق المهني، كأن تنشر كلاما على لسان مصدر يحتمل معنيين أو خبرا لا تستطيع إثبات صحته.
كان يعلمنا كيف نحترم مهنتنا ومصادرنا حتى يتحقق احترامنا لأنفسنا وكان يدفعنا للمعرفة بكل موضوع صحفى نتعرض إليه قبل أن نبدأ العمل فيه.
٩ شارع حسن صبري، كانت السعادة والحماس يرافقانى بينما أتجه إلى هذا العنوان عبر أتوبيس ٤٩ «التحرير- الزمالك»؛ لأننى سألتقى صلاح عيسى، وقد يسعدنى الحظ ويكون لديه متسع من الوقت لأجلس إليه فى مكتبه أشاطره سجائره وأطرح عليه فكرة حوار أو تحقيق ليفيض علىّ بواسع ثقافته ومعرفته؛ حيث تتفتح أمامى أبعاد ومحاور لم تكن تخطر ببالى لولا هذا النقاش، وليعلمنى طريقة جديدة من طرائقه فى أسلوب معالجة الموضوعات وطرحها بعمق يجذب القارئ ولا ينفره. أهم الحوارات الصحفية التى أجريتها فى حياتى المهنية جرت بين يديه، فقبيل الغزو الأمريكى للعراق عام ٢٠٠٣، كلفنى وزميلى «على سعيد» بسلسلة حوارات بشأن الغزو وتداعياته، وكان صلبها طرح إشكالية الاستبداد الوطنى الذى يجلب الغزو والاستعمار الأجنبى، وتنوعت شخصيات تلك السلسلة فشملت المثقفين والمفكرين المصريين والعرب بكل أطيافهم واتجاهاتهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، علاوة على رموز الفكر والسياسة العراقيين. وبتشجيع الأب وحماسته نصحنا بتجميع تلك الحوارات فى كتاب كتب بنفسه مقدمته «حوارات القاهرة– المثقفون والأزمة العراقية».
سيظل اسم صلاح عيسى على كتابى المشترك مع الصديق على سعيد مدعاة للتباهى والتفاخر بين زملائى وأقرانى ولمن دخلوا بلاط صاحبة الجلالة من بعدنا، انظروا، يكفينى أن صلاح عيسى قدم كتابا عليه اسمي.
وفى تلك الفترة خاض صلاح عيسى معركة شجاعة بقلب مثقف جسور فى وجه كهنة الاستبداد الذين حاولوا تزييف الحقائق واتهامه بما ليس فيه، وكانت معركة عمادها الدفاع عن مبادئ وأخلاق مهنتنا، وكنت وعلى سعيد وبكل فخر جنود المثقف الجسور فيها. كان أيضا أول من طرح قضية «تجديد الخطاب الدينى» فى وقت لم يكن أحد من المشتغلين بالصحافة والثقافة يدرك أهمية هذه القضية، فدفعنى لإجراء سلسلة حوارات مع مثقفين وعلماء أزهريين وسياسيين بكل انتماءاتهم وخلفياتهم الفكرية، ولا تزال آراؤهم وأفكارهم حاضرة فى كل النقاشات الدائرة الآن؛ حيث أصبح تجديد الخطاب الدينى إشكالية العصر، وربما جوهر مشكلاته. كانت صحيفة «القاهرة» من أهم الإصدارات الصحفية المعنية بالثقافة والفكر، أسسها صلاح عيسى ودعم ركائزها لتكون الأكثر تأثيرا فى الدوائر الثقافية والسياسية المصرية والعربية، وبعد أن غادرها بريق صلاح عيسى أصبحت كغيرها من الصحف التى تصدر دون قارئ. وفاءً لهذا الرجل، ليت وزير الثقافة حلمى النمنم يعيد النظر فى «القاهرة» لتعود إلى سابق عهدها، وينظر من هو أهل ليخلف قامة بوزنه. أستاذى، أعترف أنى تلميذ وابن عاق وأحمق؛ لأننى لم أحرص على أن أظل قريبا منك، لكن وكما قلت لى فى آخر مهاتفة: «لست عاقا وأقدر ظروف الدنيا ومشاغلها». لكننى لم أهجر أبدا رحابك، وكنت كلما قرأت مقالك أسمع صوتك بكل تفاصيله حتى حشرجة الحنجرة بسبب التدخين، فأنت تكتب كما تتكلم. تلك الكلمات لن توفيك حقك لكنها محاولة لتلمس القرب من روحك باستعادة ما كان بين الأستاذ وتلميذه.