بيد أنّ هذا كلَّه لا يعنى أنه وطوال القرن العشرين ما كانت هناك جهود اجتهادية، وجهود للإصلاح والتجديد، وقد قسمتها إلى خمس مراحل وفترات: مرحلة محمد عبده ومدرسته، ومرحلة محمد إقبال ومدرسته، ومرحلة السنهورى ومدرسته، ومرحلة مالك بن نبى ونظرية الحضارة، ومرحلة المصالح ومقاصد الشريعة.
فى مرحلة محمد عبده وجيله سادت فكرتان: فكرة السُنَن فى قيام الحضارات وانقضائها، وفكرة إصلاح المؤسسات الدينية والوقفية، كان تشخيصه وتشخيص معاصريه أننا نعانى من انحطاطٍ طويل الأمد صار أزمةً حضارية. وللنهوض الحضارى الذى يتضمن نهوضًا سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا سُنَن أو قوانين، ولا يحدث بصورةٍ عجائبية، فينبغى بعد التشخيص وبالمقارنة مع النهوض الأوروبى من السير قُدُمًا فى استحضار أسباب وآليات وعوامل النهوض، وما اعتبر محمد عبده الفصل بين الدين والدولة من دواعى النهوض، كما قال فى ردّه على فرح أنطون. لكنه رأى أنّ المؤسسات الدينية والمحاكم الشرعية والأوقاف جميعًا فى حالة انحطاط، لخضوعها لأهواء السلطات، ولأنها تجمدت على التقاليد القديمة، وقد اعتقد أنه بالعمل على أسباب النهوض فى الأمة بالتعليم والتجديد السياسي، واستقلال المؤسسات الدينية، يمكن أن يجرى ضمن النهوض المرتَقَب تجاوز التقليد العقدى والفقهى وإنتاج أجيال جديدة من العلماء فى مؤسساتٍ تتسم بالاستنارة والصلاح.
ولو أقبلْنا على دراسة المسائل التى نجح عبده فى إحقاقها لربما لم نجد الكثير، لكنه نجح فى بعث روحٍ وثَّابةٍ دافعة باتجاه النهوض ومن قلب الإسلام وثقافته. بيد أنّ مدرسته أو أعلامها ورغم بقاء الفكرة العامة بشأن النهوض قوية فى أوساطهم؛ فإنّ الأولويات لدى جيل المدرسة الثانى اختلفت بل تناقضت. فاتجه البعض لمسألة فصل الدين عن الدولة لمنع الدين من الاعتداء على الدولة المصرية الدستورية الجديدة (على عبدالرازق وطه حسين ومنصور فهمى وآخرون). كما اتجه البعض الآخر مثل رشيد رضا اتجاهًا معاكسًا بإبراز الدور الذى ينبغى أن يكون للدين فى الدولة الوطنية الجديدة، فى حين مضى طرفٌ ثالثٌ باتجاه إدانة محمد عبده ومدرسته باعتبارها ماسونيةً وتغريبًا. وأعانت على هذا الانقسام ظروف الحرب الأولى وما بعدها حيث اكتملت سيطرة المستعمرين على أقطار العالم الإسلامي.
إنّ المشروع الآخر أو الثانى بعد مشروع محمد عبده هو مشروع المفكر محمد إقبال، فى كتابه: تجديد التفكير الدينى فى الإسلام. وقد تميز إقبال الذى درس بألمانيا وإنجلترا بتوسيع الأُفق، عندما ضمّ إلى التأويلية فى تأمل النصوص الدينية من وجهة نظر رؤية العالم: اعتبار التاريخ أو تجربة الأمة فى التاريخ، ليكون ذلك كله أساسًا فى التشخيص، وفى اجتراح المخارج، ومن ضمن هذا التوسيع النظر إلى الحركات الإسلامية الجديدة بإيجابية، باعتبارها جميعًا محاولاتٍ للتجديد والتصدى للمشكلات التى أتت من مواريث القرون أو من غزو الغرب للعالم، لكنّ إقبال النهضوى والتجديدى وقف للمرة الأولى أمام عقبةٍ كئود، صارت همَّ الهموم على مدى العقود اللاحقة وحتى اليوم، وهى عقبة الهوية. فالمسلمون بموازين العدد (ورغم أنهم حكموا الهند قرونًا ) ظلّوا أقلية فيها، ووسط يقظة الروح القومية فى الشعوب المستعمرة، وظهور المؤتمر الهندى الذى تزعمه غاندى بفلسفته اللاعنفية؛ فإنّ قلقًا عميقًا ساور المسلمين السادة سابقًا، على دينهم وعلى حرياتهم، رغم مساعى غاندى الكبيرة للطمأنة والمشاركة. ولذلك فإنّ محمد إقبال المتوسع فى تأويل النصوص، والفاهم للتاريخ والحضارات؛ كان يريد إنشاء دولٍ مستقلةٍ عن الاستعمار، تتمتع بميزات الحداثة؛ لكنها إسلامية، وهناك جدليةٌ شديدةٌ ومعقَّدة فى تفكيره تتناسبُ وثقافته الفلسفية الواسعة، لكنه صار معتبرًا الداعية الأول لأنشاء باكستان المنفصلة، رغم وفاته عام ١٩٣٨. لقد نُسيت تجربةُ إقبال فى ربط النص وتأويلاته بالتاريخ، وبقى له وعنه إبداعه الشعري، وإدراكه لأهمية الهوية والخصوصية فى الوعى والمصائر.
أما المشروع التجديدى الثالث، فهو مشروع الفقيه القانونى الكبير عبدالرزاق السنهوري، وكان قد درس القانون بفرنسا، وكتب أُطروحته عن الخلافة عام ١٩٢٦، ومع أنه كان قد اقترح الشريعة قانونًا للدولة الوطنية الجديدة بعد التقنين وإجراء الإصلاح الجذرى عليها؛ فإنه وطوال أكثر من ثلاثين عامًا سعى لتلاؤميةٍ وامتزاج بين القانون المدنى وموروثات الفقه الإسلامي، وكان سعيدًا بهذه التوفيقية التى اعتبرها استعادةً للثقة بالنفس وبالدين، وإثباتًا للكفاية والإبداع من جانب الفقهاء المسلمين القُدامى، وقد تأسست على يديه مدرسةٌ من القانونيين المصريين وغيرهم ظلت تؤثر حتى الثمانينيات من القرن الماضى فى التعليم بالجامعات، وفى التأليف فى مسائل إدارية ودستورية لها علاقة بالتاريخ، ولها علاقة بالفقه القديم.
بيد أنّ مشروعه التلاؤمى الواسع، الذى كتب فيه كثيرًا، دخلت عليه تأويلاتٌ فى حياته ما اعترض عليها هو، من جانب الذين فصلوا فصلًا قاطعًا بين الشريعة الإلهية، والشرائع الوضعية، ثم جرى فهم آراء السنهورى أو مسالكه فى الاجتهاد باعتبارها دالّةً على اعتبار شرعية الدولة والنظام الجديد متعلقةً بتحول الشريعة إلى قانونٍ للدولة، فازدهرت مشروعات تقنين الفقه، وصار الفقه المقنن فى موادّ على طريقة مجلة الأحكام العدلية العثمانية هو الشريعة ذاتها، وصار تطبيقها ضروريًا لبقاء الدين وشرعية الدولة، وكل ذلك فى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
والمشروع التجديدى الرابع هو مشروع المفكر الجزائرى مالك بن نبي. وهو أكثر من محمد إقبال يطرح نظريةً فى الحضارة، وهو متأثر برؤية شبنجلر فى التدهور الحضارى الغربي، ورؤية أرنولد توينبى فى التحدى والاستجابة الحضارية، لكنه ينطلق مثل المشارقة الآخرين من مقولة الانحطاط فى حقبة ما بعد الموحِّدين، ومقولة القابلية للاستعمار نتيجة الاختلال الذى حصل بين عناصر الحضارة فى عالم الإسلام، ومع أنّ الاختلال بحسبه ذهنى وتفكيري؛ فإنه يثق باستراتيجيات عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ويريد إقامة متَّحد حضارى مع الحضارات الشرقية الناهضة بمشروعات سياسية تحررية، ويعتبر العرب عبر الثورة المصرية، شركاء فيها، ورغم تضاؤل آماله بثقافة «المناعة» العالمثالثية بعد منتصف الستينيات، وخوفه من انفجار العنف بداخل الإسلام؛ فإنه ما تدخل فى عمليات مكافحة التقليد، أو القطيعة مع الموروث، والتى صارت زادًا ضخمًا فى حقائب المثقفين العرب ومشروعاتهم الشاملة.
ولا تزال كتاباته، هو الذى توفى عام ١٩٧٥، لها شعبيتها بين المتدينين من الشبان والكهول باعتبار نزعتها التحديثية المعارضة للغرب وغزوه الفكرى والثقافى، بيد أنّ الاهتمام العملى أو النزوع التقنى والتطبيقي، والذى سيطرت فيه ثقافة الإحيائيات والأُصوليات، منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، نحّى تلك الكتابات التأملية عن دائرة الأولويات لصالح مقولة تطبيق الشريعة، وإقامة الدولة، ومصارعة العالم. ويبقى المشروع الخامس أو المرحلة الخامسة من مراحل التجديد الدينى أو تغيير رؤية العالم من طريق خطابٍ جديد، وأعنى بذلك مقولة مقاصد الشريعة، وضرورياتها الخمس، أو المصالح الضرورية، وقد كانت لها مصادر ومصائر ووظائف مختلفة خلال أكثر من قرنٍ من الصعود والخفوت، وهى عندما طُرحت خلال العقود الثلاثة الماضية، كانت ذات غاياتٍ تواصُلية؛ وبخاصةٍ من جانب الكبار وبخاصةٍ العلاّمة الشيخ عبدالله بين بيه، لقد استخدمت فى الثمانينيات والتسعينيات فى إنجاز إعلانات إسلامية لحقوق الإنسان بقصد المشاركة فى القيم العالمية التى ظهرت فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، فنحن نملك- بحسب مفكّرى وفقهاء المقاصد- قيمًا ومبادئ نحن مُلزَمون بها فى ديننا، وملتزمون بها تُجاه العالَم، وصحيح أنّ بعضَ الذين كتبوا فى المقاصد كانوا يريدون تشجيع الاجتهاد أو الفخار بالتفوق والخصوصية، بيد أنّ التوجه الرئيس هدف للمرة الأولى للتفكير فى علاقاتٍ أُخرى مع العالم غير علاقات الحرب والصراع، بل صارت فكرة المقاصد أو رؤيتها ظاهرةً فى قلب خطابٍ جديدٍ للسلام والتعاون والتصالح من جانب المسلمين مع البشرية ومع نظام العالم، وسنعود لذلك.