فتحت التطورات الأخيرة المتعلقة بقيام نظام البشير السوداني بإعادة جزيرة سواكن إلى الرئيس التركي رجب أردوغان الباب للمؤرخين للبحث في غياهب التاريخ عن قصة هذه الجزيرة التي ظنناها في طي النسيان، وقبلنا واقع تبعيتها وبدون أي مشكلة للسودان منذ عام 1954.
وفي الحقيقة فإن مصرية هذه الجزيرة ذات الأهمية الاستراتيجية، والتي تقع عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، لا يمكن إنكارها سواء تحت الحكم العثماني لمصر، ولا تحت الولاية المصرية البريطانية (منذ عام 1898) وترجع جذورها إلى أكثر من ذلك بكثير إلى عهد السلطان المملوكي بيبرس.
في الواقع، ووفقا لما جاء عن المؤرخ المصري الشهير المقريزي (1364-1442) فإن السلطان الكبير بيبرس كان يرغب في بسط السيادة المصرية على البحر الأحمر بأكمله، فقام بارسال نائبه، الأمير عز الدين الحلبي، على رأس جيش كبير استطاع اقتحام كل من مدن كوز وعيداب وسواكن. وخلال تلك الحملة، أوشك الأمير الحلبي أن يقتل. وقبل عودته إلى القاهرة، ترك في سواكن كتيبة عسكرية، لعب نسلها دورا رئيسيا في تنمية الجزيرة.
ومع قيام محمد علي باشا في عام 1820 بإرسال ابنه طوسون على رأس جيش كبير للاستيلاء على السودان بدأ التاريخ الحديث للجزيرة. وكان الهدف من هذا الفتح أساسا السيطرة على شرق أفريقيا وتوحيد أراضي حوض النيل بغية ضمان سيطرة مصر على البحر الأحمر (يجب ألا ننسى أن الحجاز الواقعة على الجانب الآخر من البحر الأحمر كانت تحت سيطرة محمد علي) بالإضافة إلى تأمين مصادر النيل في قلب أفريقيا بشكل دائم.
في العام التالي، 1821، زار محمد علي باشا السودان للمرة الأولى وقرر إرسال جيش ثان في عام 1823 وأسس مدينة الخرطوم في عام 1824.
وهكذا أرسل محمد علي باشا كتيبة عسكرية إلى جزيرة سواكن علي رأسها أحد الضباط ممثلا عن قائد الجيش بالسودان علي خورشيد باشا.
بعد وفاة محمد علي، واصل خلفاؤه إرسال مدراء إلى السودان، بما في ذلك الأرمني الشهير أراكيل باي، شقيق نوبار باشا.
في 20 مايو 1838، أصدر السلطان العثماني محمود الثاني، فرمان بضم محافظات الحبشة وموسوا وسواكن، للمملكة المصرية بصفة دائمة (وعلى هذا الاساس تقرر اطلاق اسمه على القناة التي تربط القاهرة بالإسكندرية في مصر وتمت تسميتها قناة المحمودية).
وقد جرت العادة عند حدوث نزاع أو جدل حول التبعية السياسية أو الإدارية لمكان ما، أن نرجع إلى الخرائط فهي في حد ذاتها برهانا لا جدال فيه. وقد كان عالم الآثار الألماني ورسام الخرائط ريتشارد ليبسيوس (1810-1884) محبا لعلم المصريات وسابقه شامبوليون. وفي عام 1836 عين أمينا للمعهد الأثري الألماني في روما. ، وقام في عام 1842 بنشر طبعة رائعة من كتاب "موتى المصريين القدماء" نقلا عن ما جاء بأحد اوراق البردي التي تمكن من دراستها في تورينو. وفي العام نفسه، في 1842، كلف من قبل الملك فريدريك جيوم الرابع، بقيادة حملة إلى مصر استمرت حتى عام 1845. ولكن ليبسيوس لم يكتف بدراسة علم المصريات، بل قام برسم خرائط كاملة لمنطقة النوبة والساحل الشرقي للسودان المصري.
في عام 1865، أصبح ليبسيوس مديرا للآثار المصرية في برلين. ودعاه الخديوي إسماعيل للمشاركة بالحفل الذي تم تنظيمه للاحتفال بافتتاح قناة السويس في نوفمبر 1869. وتثبت تلك الخرائط التي قام ليبسيوس برسمها للسودان المصري خلال عامي 1849 و1859 أن جزيرة سواكن كانت في ذلك الوقت تحت الإدارة المصرية بالكامل. حتى مع بدء الولاية المصرية البريطانية في عام 1898 لم يتم تغيير الوضع السياسي والإداري للجزيرة وذلك حتى استقلال السودان بعد نصف قرن.
هكذا يثبت تاريخ سواكن وخرائط ليبسيوس أن سلطان القرن الحادي والعشرين العثماني الجديد ليست لديه شرعية المطالبة باستعادتها.