الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

الوصفة المستحيلة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

[email protected]
ثمة قصة قديمة كنا نرويها على سبيل التندر عن طبيب عجز عن إقناع مريضه بخطورة استمراره في التدخين؛ فأتى له بكتاب مصور يجسد تلك المخاطر بالتفصيل، وطلب من المريض قراءة الكتاب بعناية، ومعاودته بعد الانتهاء من قراءته، وحين عاده المريض سأله عن قراءته للكتاب فأجاب أنه قرأه بدقة، وتهلل وجه الطبيب، وتساءل: ترى هل بدأت محاولة الكف عن التدخين؟ فنظر إليه المريض متعجبًا قائلاً: “,”التدخين يسعدني، وحين قرأت كتابك أحسست بانزعاج شديد. ترى هل من عاقل يفضل الانزعاج المؤلم على السعادة والاستمتاع؟ لقد ألقيت بكتابك المزعج في المدفأة ومضيت مستمتعًا بسيجارتي“,”.
تذكرت تلك القصة خلال متابعتي للقاء الأخير الذي دعا إليه السيد وزير الإعلام، واستوقفني فيما دار من مناقشات حول حرية الإعلام في بلادنا أن عبارات الاستهلال تكاد تكون متطابقة؛ فالجميع بلا استثناء يؤكدون احترامهم، بل تقديسهم، للحرية؛ ثم ما أن يسخن الحوار إلا وتطل برأسها تلك الكلمة التي لم تكف السلطة الأيديولوجية عبر التاريخ، ورغم تنوع توجهاتها الماركسية والدينية، عن الاستمتاع بترديدها، والإلحاح عليها دون ملل، وهي ترتدي مسوح الأب الراعي لأطفاله. إنها كلمة “,”ولكن“,”.
السلطة تريد حرية دون إزعاج. تريد ديمقراطية دون ضجيج. تريد حرية معقمة تهمس ولا تصرخ مهما كانت المخاطر والآلام. تريد –كصاحبنا- أن تستمتع بالتدخين وتبحث عن وصفة طبية تجنبها المخاطر دون أن تسبب لها ضيقًا ولا انزعاجًا، وهو المستحيل بعينه.
فلنقترب قليلاً من شعارات الدعوة للحرية التي ترددت كثيرًا في ذلك اللقاء. سوف نكتشف أن ثمة كلمة ثابتة تلتصق بغالبية تلك الشعارات. إنها كلمة “,”ولكن“,”: نحن مع الحرية طبعًا ولكن لسنا مع الفوضى. الحرية كل الحرية للشعب ولكن لا حرية لأعداء الشعب. الحرية للوطنيين الحقيقيين ولكن لا حرية للعملاء والمندسين. كل الحرية للأفكار البناءة الشريفة ولكن لا حرية للأفكار الهدامة المستوردة. الحرية قيمة مقدسة ولكن في حدود الالتزام بثوابتنا الدينية والوطنية.
قد تبدو كل تلك الشعارات براقة حتى نصل إلى تلك الكلمة المفتاحية “,”ولكن“,”، فإذا ما تساءلت: وكيف يمكن التفرقة؟ كيف يمكن أن يتم الفرز والتمييز؟ كيف يمكن التفرقة بين “,”النقد البناء“,” و“,”النقد الهدام“,”؟ كيف يمكن التفرقة بين “,”السخرية“,” و“,”التطاول“,”؟
إن جرائم القذف العلني، وكذلك جرائم اختلاق ونشر أخبار زائفة، أمور يحددها القانون؛ غير أننا فيما يبدو بصدد البحث عن مرجعية أخرى غير القانون تتولى التفرقة بين المسموح والممنوع، وأن تلك المرجعية تتجسد في النهاية في السلطة ذاتها؛ فهي المرشحة وحدها لتحديد المقبول والمرفوض في مجال حرية الإعلام.
ويتجاهل هؤلاء أن كافة تلك التمييزات أمور نسبية تمامًا، وأن محاولات القضاء على الأفكار قد باءت جميعها بالفشل. إن المؤسسات، والنظم، والتنظيمات، لا بد أن تنتهي يومًا، بل ويمكن إنهاؤها، وتستمر بعدها الحياة، فلكل فعلٍ نهاية. أما الأفكار فإنها تتجدد وتتطور، قد تجمد وتنغلق، قد يعلو صراخها أو يخفت همسها، ولكنها أبدًا لا تموت حتى ولو مات أصحابها، تستوي في ذلك أسخف الأفكار، وأروعها: النازية، الشيوعية، الداروينيّة، الصهيونيّة، الاشتراكيّة، الأصولية... الخ.
إن الأفعال ترتبط بحياة أصحابها وتنتهي بموتهم. وكذلك المؤسسات، تنتهي بانتهاء الحاجة إليها، أو بتدهور أدائها. أما الأفكار، فما دامت قد خرجت من أفواه أصحابها، أو من أقلامهم، فإنها تظل باقية ولو مختزنة.
إن محاولة القضاء على الأفكار بدعوى اجتثاث الجذور الفكريّة، أو الغطاء السياسي للعنف، أو للفوضى، أو للدكتاتورية، أو للعنصرية، أو حتى للإلحاد، ليست سوى أوهام تدحضها حقائق العلم والتاريخ معًا، بل إن حقائق التاريخ تؤكد أنه ما من دعوة لتقييد الحرية، مهما كانت نوايا أصحابها، إلا وانتهت إلى سلسلة من العنف والعنف المضاد.
وطالما أن الأمر كذلك؛ فإن الحل والضمان إنما يتمثل في الدعوة إلى القبول بحق الأفكار جميعًا في التعبير عن نفسها، مهما كانت درجة الاختلاف معها، أو النفور منها؛ بما يتضمّنه ذلك القبول من تسليمٍ واعٍ، بما سوف ينجم عنه من فوضى فكريّة. إن فوضى الأفكار أقل ضررًا من إرهاب العنف. وضجيج الكلمات، مهما كان ما يسبّبه من إزعاج، أهون كثيرًا من صوت لعلعة الرصاص.