رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تليفزيون الشعب في "شارع الباجوري"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

«كان دخول صاحبنا (الحاصل) مجدًا لا يضاهيه مجد، فلا أحد من فتيان الدار يقدر أن يحمل هذا الشرف بسهولة، وهو يعلم أن عدم وجوده الدائم فى الدار الكبيرة وإقامته فى المدينة هى التى شفعت له لدخول (الحاصل) ورؤية ما فيه وأيضـًا التمتع بالأكل من خلالها وفيه كمان»! (ص ٢٨).
هكذا يعود بنا الكاتب والناشر سليمان القلشى إلى ذكرياته وتفاصيل سنوات طفولته فى قويسنا وقرية الرمالي، ليقدم لنا عبر صفحات كتابه «شارع الباجوري» حكايات ممتعة تمزج بين السيرة الشخصية والرصد الاجتماعى لمصر فى سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
فى (الحاصل)، ذلك المكان المقدس الذى يعز دخوله إلا لمن يملك مفتاحه، نكتشف أن المقصود هو مكان تخزين المواد الغذائية مثل: الجبن والقشدة فى بيوت تلك القرى فى محافظة المنوفية. هنا تتفتح عينا الطفل على حكايات ثرية ومدهشة.
وإذا كان القلشى قد بدأ كتابه من نقطة ليلة العزاء بعد وفاة والده، ومدى تأثر والدته بهذا الفراق لسنوات طويلة تالية؛ فإنه يقدم لنا صورة بانورامية عن حياة الريف والمدينة، من خلال التقاط التفاصيل وتدوين ما تحفظه الذاكرة من حكايات وحوارات كان أبطالها من أفراد العائلة والأهل والمعارف.
تتنوع فصول الكتاب لتنقل ليس فقط جانبـًا مما عاشه المؤلف وترك فيه أثرًا عبر سنوات تشكل فيها وعيه وتغيرت فيها نظرته للعالم من حوله، وإنما أيضـًا تزيح الستار عن «تاريخ شعبي» غير معروف مليء بالدقائق والتفاصيل والمنمنمات، والتى بقراءتها تساعد كثيرين على فهم جانب من ملامح التغير الذى طال المجتمع المصرى خلال نصف قرن، وكيف كان هذا التغير سبيلًا للمضى قدمـًا، وسببـًا فى ذات الوقت للتشبث بالذاكرة.
يفتح القلشى أمام القارئ باب دنيا شارع الباجوري، وهو أحد الشوارع المهمة فى قويسنا ومسقط رأسه؛ إذ شكَّل هذا الشارع جزءًا لا يستهان به من شخصيته. عاش القلشى فى هذا الشارع طفولته وصباه وبدايات شبابه، وظل شارع الباجورى بجغرافيته وناسه محفورًا فى ذاكرته ووجدانه.
فى هذا الشارع، كانوا ينادون على الرجل بقولهم «عمي» أما السيدات فكان الكل يناديهن «عمتي»، فى ظل ترابط أسرى شديد، وعلاقات قائمة على الود والاحترام (ص ٦٩).
يحدثنا الكاتب عن سينما قويسنا «سينما النصر»، التى كان رسم دخولها ثلاثة قروش ونصف القرش، فى حين يتم إنفاق باقى «الشلن» بشراء سندوتش طعمية، لتكتمل الاحتفالية الكبرى بدخول السينما بأنوارها وأفلامها (ص ٨٤). بدت هذه السينما أداة ترفيه غير عادية فى حياة أهالى المدينة، وكان ينافسها فى هذه الفترة من أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات «تليفزيون الشعب»، وهو جهاز تليفزيون كانت مؤسسات الدولة حريصة على وضعه فى الميادين وإنشاء غرفة خشبية له لتضعه فيها بحيث تكون أشبه بشاشة السينما، فشاشته تكون لها نافذة على الخارج، وأيضـًا تمهد الدولة المكان بدكك خشبية متراصة حتى يجلس عليها المواطنون لمشاهدة الأفلام ومباريات كرة القدم (ص ٨٦).
على شاشة «تليفزيون الشعب»، عاش أهالى شارع الباجورى تفاصيل ثلاثية مسلسلات «الأرض»، «الساقية»، «الرحيل» للكاتب عبدالمنعم الصاوي، وهى أكثر المسلسلات الشعبية شهرة-حينذاك- من بطولة صلاح قابيل وسهير المرشدى وعبدالغنى قمر وحمدى غيث (ص ٨٦).
ويروى القلشى كيف أن أغلب سكان شارع الباجورى هم أبناء مهنة واحدة؛ إذ كانوا متطوعين للالتحاق بالخدمة العسكرية، ليجدوا أنفسهم بعد سنوات قليلة صف ضباط، ثم يشترى كل منهم قطعة أرض ويستقر مع عائلته فيها (ص ٦٨).
وربما يستوقفك حديثه عن زيارته مع شقيقه الأكبر وأولاد خاله غيط «أبو شارقة»؛ حيث «يجلس صاحبنا ليفحص كعادته الأرض والفلاحين فى أرضهم المجاورة لأرض أولاد خاله، ويندهش لهذه الجدية الكبيرة للجميع صغارًا وكبارًا وهم يمسكون بالفأس ويضربون بكل شدة فى الأرض ويرفعون «المقطف» المملوء بالأتربة إلى أعلى الحمار ليحمله إلى آخر الغيط على الزراعية كما يقولون» (ص ٣٤).
بل إنه يحكى عن مغامرة ابن خاله فى عبور الترعة سباحة إلى الضفة الأخرى، ليجلب له ما اشتهاه من قطع «الكراملة».
«ومع مرور الأيام والسنين ووصوله لأماكن جديدة وذهابه فى رحلات خارجية وداخلية ودخوله فنادق وأماكن سياحية ذات مستوى تناول فيها جميع أنواع الحلويات، لكنه ظل طوال حياته أسيرًا لطعم كرامة غيط «أبو شارقة»، واصفـًا إياها لأولاده وأصدقائه وأحفاده بأنها كانت أحلى طعم فى الدنيا.
«ومع ذلك، عندما سألته أمه عندما رجع إلى الدار كيف الحال اليوم فى الغيط، رد سريعـًا: زفت» (ص ٣٥).
وربما تضبط نفسك وأنت غارق فى الضحك، حين يحكى سليمان القلشى عن خاله أحمد، الأخ الأكبر لأمه، والفلاح «الأراري»، صاحب نظرية «اشرب ومتبصش» فى تناول الشاى (ص ٥٣)، أو حين يسرد تجربته الأولى فى جمع الدودة من الحقل، وكيف صاح بصوتٍ عالٍ عندما وجد ورقة شجرة مصابة بالدودة: «لطعة.. لطعة» ففوجئ بالمحيطين به تنتابهم حالة من الضحك الهستيرى ردًا على صيحات فرحه الشديدة باكتشافه شجرة مصابة» (ص ٦٣).
ينتقل الكتاب من عالم «قويسنا» الثرى بأماكن ذات خصوصية وشخصيات فريدة حيث ولد وعاش المؤلف، إلى صحراء سيدى برانى الباردة وما يحيطها من حياة نظامية قاسية، مرورًا بعجائب رحلة قصيرة إلى الأردن فى وقت شديد الحساسية.
إن سيرة سليمان القلشي، التى صاغها فى عفوية ظاهرة وصدق جلي، وبلغة محكية تتدفق بلا تكلف، هى أيام إنسان مصرى سعى بكل ما أوتى من حيلة وقوة أن يجد لنفسه موضع قدم فى الزحام، وهو إنسان تجد أضرابه أمامك فى كل مكان، فى الشارع أو المكتب أو الحقل أو المصنع، وهم أبناء البلد الطيبون، الذين يتشبثون بكل أرض حلوا فيها، وكأنها قطعة من أنفسهم، ويقبضون على كل زمن مروا به، لأن دقائقه وساعاته وأيامه هى حيواتهم التى تتجاور وتتفاعل وتمتزج وتتصارع لتصنع تاريخ أمة بأسرها.