الإثنين 30 سبتمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

صلاح عيسى.. صفحة مضيئة في "دفتر الوطن"

صلاح عيسى
صلاح عيسى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يأبى الرحيل أن يترك 2017 دون أن يُسجّل في دفاتره المزيد من المبدعين.. كان يهبط على الأرض في هدوئه المُعتاد الذي لا يشعر به أحدنا ويقف بعيدًا منتظرًا اللحظة التي لا تُخطئ. فجأة يقترب خاطفًا أحدهم وسط مُحبيه، لا شأن له إذا كان أحدهم لم يُكمل فنجان قهوته، أو لم يجد الوقت ليضحك على نكتة أخيرة التقطتها أذناه، ربما ظن ابن أحدهم أو حبيبة الآخر أن تلك الابتسامة ليست الأخيرة، أو أن الموقف الغاضب الذي حدث بينهما سينتهي في حديث آخر لم ولن يتم. الموت يقوم دومًا بمهامه المُحددة في توقيت لا ينتظر ثانية من الاقتراب أو التأجيل.
هذا العام كان القوسين بعيدين عن بعضهما بشدة. الكثير من المبدعين رحلوا، وكأنهم كانوا يقفون متململين في طابور طويل في نهايته باب الخروج من هذا العالم الذي صار أكثر سوءًا من جحيم دانتي. حقًا تركوا لنا ما يشغل أذهان عشرات الأجيال القادمة من حكايات، لكن المساحة الخالية التي تركوها ستظل أيضًا تجلب برودة قاسية لن يسدها وافد جديد، فالوافدين الجُدد الآن يخرجون من هذا العالم لا يدخلون إليه. العظماء والطيبون يسرعون بالرحيل حقًا وكأن عالمنا يُصر على أن يبقى في العالم من لا يستحقون الارتقاء إلى الملأ الأعلى؛ بينما ينظرون هم إلينا بشفقة من مقاعدهم المريحة في عليين، وينتظرون إفساح المكان قليلًا لقادم جديد يستعد لمشاركتهم نظرات الشفقة. لا أحد يعلم من هو، حتى الموت نفسه لن يعرفه إلا إذا وجد اسمه في قائمة دفتر الحصاد اليومي.
آخر الراحلين هو الكاتب والصحفي والمفكر الكبير صلاح عيسى الذي تركنا بهدوء مساء الإثنين الماضي بعد قتاله الأخير في وجه المرض. تركنا بعد أن كدنا نحتفل سويًا بانتهاء عقده الثامن، وعاد إلى قريته التي خرج منها منذ ما يزيد عن النصف قرن ليُحقق أحلامه في الصحافة والثقافة والفكر، ويضم المئات من التلاميذ والمحبين الذين أفزعهم فراقه. بعد أن كان يعالج فى مستشفى السلام الدولى، قبل أن تطالب أسرته وعدد من كبار الصحفيين بنقله لتلقى العلاج فى أحد المستشفيات العسكرية، حيث تمت الاستجابة لطلبهم، ونقله إلى مستشفى المعادى العسكري التي كانت سماؤها منفذه للرحيل.
"نال راحته الأخيرة المفروضة عليه وعلينا، وظل يعمل طوال حياته، وقدم لنا تجربته الكبيرة المتنوعة في مجالات عديدة". هكذا نعاه الناقد الدكتور حسين حمودة الذي أشار إلى أن الراحل صاحب موقف ظل من خلاله يدافع عنه طوال حياته، ودفع ثمنًا كبيرًا من أجل التمسك به"وكان كاتبًا صحفيًا غزير الإنتاج، مهتمًا بكل ما يدور في وطنه وفي العالم، وهو أيضا صاحب كتابات تاريخية مهمة وغير تقليدية جعلتنا نتأمل بعض وقائع التاريخ وكأننا نعيش فيها وكأنها تحدث لنا، ثم جعلنا نستكشف الدلالات والأبعاد الكبرى وراء هذة الوقائع التاريخية التي تبدو بسيطة".
"رحل محاربًا ومدافعًا عن حرية الرأي وحرية الصحافة"، وصفت الكاتبة الصحفية أماني ضرغام الكاتب الكبير الراحل بهذه العبارة لـ"البوابة"، مؤكدة أنها لن تنسى موقفه عندما كان عضوًا بالمجلس الأعلى للصحافة في دورته الأخيرة، وحربه من أجل حرية الصحافة "وخاصة موقفه تجاه القانون 95 لسنة 96 والمتعلق بحرية الرأي وحرية الصحافة، وحرية الصحفي أيضًا، والتي دفع ثمنها من حريته"؛ وأكدت أن عيسى كان معلمًا وقدوة "فكنا نتعلم من مقالاته وكتاباته، التي ستظل عالقة في ذاكرة جميع الصحفيين وفي ذاكرة التاريخ الصحافة المصرية"؛ وشددت على أنه آن الأوان لأن يكرم صلاح عيسى الذي كان شعاره أن يكون للصحفي موقفًا سياسيًا يدافع من خلاله عن آرائه التي يخدم بها وطنه.
يحكي الشاعر شعبان يوسف لـ"البوابة" عن لقاؤه الأول مع الراحل صلاح عيسى في عام 1976 "كان في أسبوع الجامعة والمجتمع بجامعة القاهرة، وهو يخطب بمدرج كلية الحقوق، وكنت آنذاك أراه وكأنه مصطفى كامل"؛ وأشار إلى أن الراحل كتب العديد من المؤلفات التي تُعتبر من علامات الفكر والثقافة في مصر، بداية من كتاب "الثورة العرابية"، و"الكارثة التي تهددنا"، ثم كتاب "الدستور"، وأيضًا "المثقفون وعسكر"؛ بالإضافة إلى إنتاجه الغزير من الكتب الإبداعية والمجموعات القصصية "حقًا تعلم على يده مجموعة كبيرة من جيل السبعينات"؛ وأكد أن عيسى أحد الدروس الوطنية والثقافية والفكرية لمصر "ولم يكن كاتبًا صحفيًا أو مؤرخًا أو مبدعًا أو إنسانًا فقط، ولكنه أحد القامات الكبرى التي تقترب من مناضلين كبار أمثال الصحفي أحمد حلمي، عبداللطيف حمزة، أحمد بهاء الدين، وصولًا بكُتّاب العصر الحديث".
ووصفت الكاتبة والروائية نوال مصطفى حزنها على الكاتب الراحل بالقول "لا أدري لماذا يداهمني الحزن ويسيطر عليا الشحن، ومصر تودع صاحب "هوامش على دفتر الوطن"، و"مثقفون وعسكر"، و"رجال ريا وسكينة"، و"الثورة العربية"، الرجل الذي دفع ثمن أفكاره من سنين عمره، فكان رفيق زنزانة واحده مع الغيطاني، والأبنودي، وسيد حجاب"؛ مُشيرة إلى أن عيسى تعرض في حياته لكثير من المواقف الصعبة بسبب مقالاته وأفكاره "فهو واحد من كتاب مصر الأفذاذ، الذين عرفوا قيمة تلك المهنة وأعطوها ما تستحق من تقدير وهيبة، فمنحوها حياتهم ولم يتعاملوا مع موهبتهم باستخفاف أو استسهال، بل بذلوا جهدًا واشتغلوا على أنفسهم بالقراءة العميقة من خلال ثقافتهم العربية والغربية، وكانت أقلامهم تفيض برحيق الحياة والفكر والفن".
وشدد الدكتور عمار علي حسن على أن عيسى "كان صاحب قلم بارع ولديه قدرة فياضة على الاسترسال فيما يكتب، ورغم هذه البساطة والتدفق إلا ما يكتبه كان ينطوي على عمق شديد"، ولفت إلى أن من لا يعرفه "فهو خطيبًا مفوهًا بارعًا، رأيت معاركه معنا في نقابة الصحفيين. كنت أشعر أن هذا الرجل الذي كتب عن الثورة العرابية قد تأثر بشخصية عبدالله النديم خطيب هذه الثورة، وظل بوجدانه منشغلًا بما بعد ثورة 1919 وظهر ذلك في كتابه "مثقفون وعسكر"؛ مؤكدًا أن الكاتب في قدرته على التنقيب في الأرشيف "ويقوم بهذه الدراسة الاجتماعية المهمة ويصنعها في قالب قصصي أو روائي سردي بديع، مستفيدًا بقدرته الأدبية ودراسته لعلم الاجتماع، وذائقته الأدبية ونشاطه السياسي وخبرته الميدانية، وانشغاله بالصحافة، واهتمامه بأن يصل إلى القارئ من أقرب طريق كل هذه العوامل صنعت هذا القلم الفياض".
ووصف المخرج المسرحي ناصر عبد المنعم رحيل عيسى بقوله "فقدنا أحد أهم رموزنا التاريخية، فصلاح عيسى فتح وعي جيلي بالكامل على القراءة في التاريخ من خلال كتاباته، حيث كان له قدره على التقاط حكايات من التاريخ شكلت وجدانًا"، موضحًا أنه في بدايات حياته كان يعمل بالصحافة من خلال صحف اليسار التي جمعت بينه وبين الكاتب الراحل صلاح عيسى عندما تولى رئاسة تحرير جريدة الأهالي "فهو أستاذي ومعلمي"، معتبرًا أنه كان رائد من رواد وأحد رموز الصحافة اليسارية، وله العديد من الإسهامات، وكان أحد الأعضاء الدائمين بالمجلس الأعلى للثقافة، فكان مفكرًا كبيرًا وقامة كبيرة في عالم الثقافة والصحافة في شتى مجالاتها".
ويحكي الكاتب محمد أبو العلا السلاموني عن معرفته بالكاتب الراحل قائلًا "أتذكر أنني كنت أحد كتاب جريدة القاهرة، وكان صلاح عيسى يدفعني دائمًا إلى الكتابة"، مضيفًا أن عيسى كان أيضًا له دورًا مهمًا كمفكر يحمل منارة التنوير في مصر "وكان مقره ملتقى للفنانين والشعراء والمثقفين والأدباء والمفكرين، كما كان ناقدًا بالغ الأهمية، فكان يتبنى المواهب الشابة ويُلقى عليها الضوء من خلال نقد تلك الأعمال لإبرازها"، مشيرًا إلى أن أعمال الراحل كان لها دور تنويري في تشكيل الوعي لدى العديد من المواهب من خلال كتبه الثقافية العالة المستوى أمثال "رجال ريا وسكينة " والذي تحول إلى عمل درامي كبير.