تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
يعانى المسلمون سوء علاقاتٍ متفاقمٍ بالعالم، ما عاد متعلقًا وحسْب باصطدام الإحيائيات والأُصوليات بنظام العالم؛ بل تعدّى ذلك إلى صعود ظاهرة الإسلاموفوبيا التى تعمِّقُ عدم الثقة بهم من جانب شرائح واسعة فى الرأى العام العالمي، وتُجرِّئُ جهاتٍ إقليمية ودولية على استهدافهم فى دينهم وديارهم، وفى المغتربات التى اندفعوا باتجاهها خلال النصف الثانى من القرن العشرين. بيد أنّ الاندفاع إلى المهاجر لا ينبغى أن يُنسِيَنا حقيقةً أو حقائق أُخرى. فثلث المسلمين فى العالم اليوم، بل ومنذ قرونٍ يتوطَّنون ويعيشون فى دولٍ ومجتمعات أكثرياتُها غير إسلامية. وهكذا فكما لا يستطيع المهاجرون العرب والمسلمون، كذلك لا نستطيعُ نحن الاستغناءَ عن العالم المختلف عنا فى الدين والثقافة وأعراف العيش والتصرف. ولذلك فنحن لا نُريد ولا نقدِرُ على تقصُّد إخافة العالم، ولا على تعوُّد الخَوف والتوجُّس منه. إنّ مصلحتنا وإنسانيتَنا تقتضيانا السعْيَ لكى نكونَ جزءًا من العالم، ومشاركين فى نظامه وحاضره ومستقبله. وبالنظر للواقع الراهن؛ فإنّ ذلك ينبغى أن يدفعَ العلماءَ والعقلاءَ منا إلى تغيير «رؤية العالم» فى أوساطِنا شرطًا ضروريًا للتأهُل للعيش فى العالم ومعه. إنّ تغيير «رؤية العالم» كما هى مستقرةٌ إلى حدٍ ما فى فقه الدين قبل فقه العيش، تعنى إقدارًا وفتح آفاقٍ على خياراتٍ أُخرى لأمتنا وديننا وإنسانيتنا. وسيلاحظ البعض، كما فعلوا فى الماضى القريب، أنّ التغيير ينبغى أن يكونَ مزدوجًا، أى من جانبهم ومن جانبنا. لكنّ هذا شرطٌ مُزيَّف؛ لأنّه يُوهِمُ بأنّ الآخرين لا يتغيرون، وأننا وحدنا المطالبون بالتغير. والواقع أنّ القلق يُساورُ الجميع، إنما هناك اجتماعٌ على قواعد أساسية، يحاول بعضُ شبابنا تحدِّيهَا باسم الدين. ولهذا التحدى مستنداتٌ بعضُها موهومٌ، وبعضُها تأصيلي. أما الموهوم فسَنَدُهُ اعتبارُ أنّ الناسَ قد جمعوا لنا، وأنّ هناك مؤامـرةً عالميةً على ديننا وأمتنا. وأما التأصـيلى فهو العودةُ إلى الأصل القرآنى وبتأويلٍ معيَّنٍ قد تكونُ له سوابق فى التاريخ وفى فهم النص، للردّ على التحدى المفتَرَض! وفى هذا الموطن والمنزع تظهر مشكلتنا فى أن نتحدَّى العالم بالقرآن، فنُسيءَ إليه وإلى أنفُسِنا، وإنما المطلوبُ التأهَّلُ والاقتدارُ على وضْع القرآن فى العالم أو إعادة عرضه عليه فى سرديةٍ جديدةٍ تقتضيها رؤيته باعتباره كتابَ هدايةٍ ونور، وليس سيفًا مصلتًا علينا قبل أن يكونَ على العالم.
الاختلالات وتحديات القرن
ما الإسلام، أو ما هو الدينُ الإسلامي؟
الدينُ ركنان أو أصلان: الكتابُ والسنةُ، والجماعةُ المتلقيةُ التى تعيش بهما ومعهما، ويجرى تزمينُهما من جانب علمائها ومفكريها فى المكان والوقت دون أن يُخِلَّ ذلك بتعاليهما، وسريانهما فى الزمان. وعن هذه العمليات الزاخرة والجارية فى الزمان يتكون فقهان: فقهٌ للعيش، وفقهٌ للدين. وهما يظهران بشكلٍ مُتوازٍ؛ بحيث يشكّل الدينُ فلسفةً ورؤيةً للاجتماع الإنسانى الإسلامى وغيره من جانب المسلمين، وهو ما صار يُعرف لدى الفلاسفة المُحْدَثين: برؤية العالم: كيف نرى الخير والشر، والحق والباطل، والحسن والقبح، وكيف نرى العلائق فيما بيننا، وإلى العلاقات مع العالم أديانًا وأُممًا ومشتركاتٍ ومفترقات فى الوجود والمصائر. وعلى سبيـل المثـال؛ فـإنّ هذه الـرؤية الملحميـة الشامـلة يراهـا الحسـن البصـرى (-١١٠هـ)، عندما يقول: لا دينَ بعد دينكم، ولا أُمة بعد أمتكم، أنتم تسوقون الناسَ، والساعةُ تسوقُكم!
أما فقه العيش، فالمعنيُّ به ترتيباتُهُ وتراكيبُهُ الاجتماعية وألسنتُهُ، وقبل ذلك وبعده قيَمُهُ المشتقةُ من الدين وأفهامِه، ومن المصالح وتكييفاتِها. وإلى التوحيد باعتباره القيمة الأسمى، هناك القيم التى هى أسماءُ الله وصفاتُه، وفضائل العيش أو أخلاقه السلوكية والعملية مثل الرحمة والمساواة والعدل والتعارُف والخير العام. وهناك مفهوما المعروف والمنكَر اللذان تتمحورُ من حولهما حياةُ المجتمع، وهما يتداخلان مع القيم، ويحكمان مفاهيم الخير والشر، ولهما نصيبٌ كبيرٌ أو النصيب الأكبر فى فقه العيش؛ بل وفى الجانب العملى من أخلاق العمل والتصرف.
على مشارف الأزمنة الحديثة، شهد فقه العيش اختلالاتٍ تناولت أخلاقَ السلوك والتصرف، كما تناولت أعمالَ الدولة والأنظمة السياسية، وتعاظم التأثر بها، والحطُّ عليها. وقد اختلفت الأنظارُ فى أسباب ذلك. فقد كان هناك مَنْ رأى أنّ هذا الاختلالَ إنما حدث بفعل صدمة الغرب، ولا علاقةَ له بالأُصول الدينية والقيمية. ولذلك اتجه الرأى إلى تجديد أو تغيير الجانب السياسى/العسكرى من فقه العيش، لمواجهة الأخطار. ومضى الطهطاوى مَثَلًا قُدُمًا فرأى ضرورةَ الإصلاح والتغيير فى مجالات الزراعة والتجارة والصناعة. وأبى أن يكونَ هناك اختلالٌ فى فقه الدين أو فقه الأصول وتجلياته الاجتماعية. بينما لم يطْلُبْ خير الدين التونسى من الفقهاء ورجال العلم الدينى غير تقبُّل الجديد. وقد استند فى هذا المطلب إلى ضرورات المصالح التى كان الطهطاوى قد سمّاها المنافع العمومية. والمنافع العمومية عنده تُطِلُّ على الوعى بالمصالح العامة، إنما ليس من الجانب الديني. فى حين رأى التونسى أنّ لهذا الاختلال مساسًا بفقه الدين، ولذلك اعتبر أنّ إعمالَ أصل المصالح تارةً، والسياسة الشرعية تارةً أُخرى، كافيان فى الإقبال على استحداث المؤسسات، دون أن يعنى ذلك المساس بالفقه الدينى العام. إنما منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر اتجهت كلُّ الجهود إلى التجديد فى فقه الدين ليتساوقَ مع التجديد فى فقه العيش. واتخذ ذلك كله عنوان إزاحة التقليد الفقهى والعقدي، وفتح باب الاجتهاد. فى الرؤية الإسلامية التقليدية أو الكلاسيكية؛ فإنّ فقه الدين كان هو الذى يحكم ويضبط فقه العيش؛ فى حين أدت ضرورات التغيير فى فقه العيش وترتيباته قبل قرنٍ ونيف، إلى أن تتحكم متغيرات العيش وترتيباته فى فقه الدين؛ باتجاه دفعه للتلاؤم معها. وقد تسبَّبتْ وقائع خمسين عامًا وأكثر من الهجوم على التقليد فى تعطُّل أو تعطيل آليات التفاعل والتنسيق بين فقه الدين وفقه العيش، بحيث انهار فقه الدين التقليدى فى النهاية، ما أمكن الاصطلاح على بدائل له أو خيارات أُخرى. ويرجع ذلك لأسباب عدة: أنّ جزءًا من الهجمات على التقليد كان لأسباب اعتقادية ما كان يمكن التنازل عنها فى نظر أتباعها. وثانيًا: لأنّ الإصلاحيين ما كانوا متحدين؛ بل كان منهم السلفيون، ومنهم التحديثيون، ومثالاهما شاسعا الاختلاف. هؤلاء يريدون العودة للكتاب والسنة بقصد التأصيل فى مواجهة التقليد. وأولئك يريدون العودة للكتاب والسنة لاستكشاف تأويلات جديدة للقرآن تسمح لهم بأسلمة الحداثة الأوروبية أو التلاؤم معها. والسبب الثالث عجز الآليات والأدوات الاجتهادية التى استعان بها الإصلاحيون بقسميهم عن استحداث مناهج جديدة لقراءة النصوص والاستنباط منها غير آليات وأدوات أصول الفقه الكلاسيكية. ولذلك ظلت أُطروحات الإصلاحيين دعاوى ما اكتسبت الشرعنة باعتبارها أقيسة صالحة بحسب جمهور الفقهاء القدامى، أو باعتبارها مصالح مرسلة بحسب المالكية. وعندما نشر محمد الطاهر بن عاشور أواخر الأربعينيات كتابه فى مقاصد الشريعة، ما جرى الاعترافُ به، وقال كثيرون فيما بعد، إنّ فيه تجاوُزاتٍ للنصوص، وتسليمًا بأوهام حداثية.