قد تصبح الكتابة أحيانا مملة مع تكرار نفس الحوادث التى تنال من مدنية الدولة وحق المواطنة ومبدأ الدين لله والوطن للجميع، ومع توالى مثل هذه الحوادث نشعر نحن الكتاب أننا لا نملك إلا الاسطمبات الجاهزة التى نصكها عند قراءتنا لخبر اعتداء على مسجد أو كنيسة، ونفس رد الفعل المكرر من الدولة، وأنا أراها وهى تهز رأسها فى سخرية وتقول للكتاب «والله العظيم أنتم بتتكلموا صح»، يعقب ذلك مؤتمر وشيخ وقسيس ثم شعور بالاطمئنان الكاذب، وبعدها ترجع ريما لعادتها القديمة.
ما حدث الجمعة الماضيى من اعتداء على كنيسة قرية الواصلين بأطفيح محافظة الجيزة هو ذاته الاعتداء الذى حدث قبل أسابيع على مسجد الروضة فى بئر العبد بشمال سيناء، فالفاعلون تكفيريون يحتكرون الحقيقة والحكمة، الفاعلون مجرمون يريدون جر بلادنا للوراء، الفاعلون يهربون من القانون ويجتهدون فى تسويد أيامنا، الضحايا ينزفون الدماء تلو الدماء وتتحول المتزوجات إلى أرامل والأطفال الذين كانوا يلعبون فى رعاية آبائهم يتحولون إلى يتامى، مشهد متكرر وتمرين مشهور ومعتاد كتبنا عنه وما زلنا نكتب، وسنكتب بعد أسابيع أو شهور، سنكتب نفس الكلمات وننتظر من الدولة رد الفعل التليفزيونى الاستعراضى الذى يحكى عن تجديد الخطاب الديني.
أطفيح التى صرخت الجمعة الماضى فى قرية الواصلين بهتاف «بالطول بالعرض هنجيب الكنيسة الأرض «هى ذاتها التى شهدت نفس السيناريو عام ٢٠١١» ولكن فى قرية أخرى اسمها قرية صول ويومها غاب القانون وحضرت الجلسات العرفية.
أعرف أن الأجواء السياسية فى ٢٠١١ كانت ملتهبة، ولكن لا يوجد بمصر أكثر خطورة من ملف المواطنة، وعلى الرغم من ذلك لم تتم محاسبة فرد واحد من الذين هدموا وأحرقوا كنيسة قرية صول، وتعهد وقتها الجيش المصرى مشكورًا بإعادة بناء الكنيسة المهدمة، بعد التفاوض على بنائها فى نفس الموقع مع أهل القرية، وقتها كان الجيش فى مرمى نيران الإخوان والسلفيين وكل الذئاب الإرهابية فى كل بقاع العالم، ويومها شهدنا فى قرية صول تلك الصورة الفضيحة التى يتقدم فيها الشيخ محمد حسان متأبطًا جورج إسحاق وغيرهما ليعقدوا مؤتمرًا هناك عن «ما فات مات ولنبدأ الحرق من جديد».
الذين اعتدوا على المصلين فى مسجد الروضة بشمال سيناء ومزقوا قلوبنا لا يختلفون فى منبع الفكرة عن الذين حاصروا كنيسة قرية الواصلين وحطموا محتوياتها، وتكرار تلك المصائب يجعلنا نتأكد من أن الإرهاب ليس منبعه الجهل أو تدنى الحالة الاقتصادية، ولكن الإرهابى يتمدد كلما انكمشت الدولة، الإرهابى لا يجد مجاله الحيوى للعمل إلا إذا رأى دولة القانون وهى تتلاشي، الإرهابى شخص جبان بطبعه لا نسمع صوته إلا إذا احتضن كلاشينكوف أو انخرط بجسده وسط مجموع صارخ كالقطيع الجائع، يعرف خبراء علم النفس ذلك جيدًا وتعرفه الدولة أيضًا، وعلى الرغم من ذلك يصدمنا الواقع بين الحين والآخر بهؤلاء الجبناء وهم يعربدون فى الشوارع هدمًا أو حرقًا أو قتلًا.
لم يعد الكلام عن ضرورة تجديد الخطاب الدينى مقنعًا لأحد، فالتصريحات فى واد والفعل فى واد آخر، ولم يعد الكلام عن ضرورة مراجعة موقف آلاف الزوايا فى مصر يصدقه أحد، فالواقع الذى نراه ونعيشه يختلف تمامًا حتى أن صديقا لى وصف الحالة بأنها مستعصية طالما غابت الإرادة السياسية الحاسمة، وطالما غابت الرؤية الواضحة فى الحق الأصيل الذى هو حق المواطنة، وأن عبارة الدين لله والوطن للجميع ستظل وهمًا وكذبًا طالما نحن نواصل الطريق فى خداع أنفسنا.
لا توجد روشتة عندى للخروج من المأزق ولا توجد وصفة جاهزة للعلاج كى أكتبها لكم، فالكل يعرف حجم الجريمة والكل يعرف طريق الخلاص، وعلى الدولة أن تختار الطريق، إما مصيبة تواجهنا كلما تيسر للإرهابيين فعلها، وإما وطن واحد وشعب واحد وبناء وتنمية.