التحرير شبه الكامل لمدينتى الرقة والموصل لا يمكن أن يقارن بغيره من الانتصارات التى تحققت على تنظيم ما يُسمى «الدولة الإسلامية- داعش» بعد عام كامل من الحرب المعلنة من قبل القوات المحلية فى كلتا الدولتين بمشاركة التحالف الدولى فى أكتوبر عام ٢٠١٦، غير أن سقوط مملكته المزعومة لا يمكن أن ينسينا أن الأهم من المواجهة العسكرية المواجهة الفكرية بصورها المختلفة، تجديد الخطاب الدينى والثقافى والتعليمى.
أعتقد أن خطورة ما حدث فى الموصل على مدار السنوات الثلاث الماضية ليس فى مجرد احتلال «داعش» هذه المدينة من الناحية الجغرافية فى يونيو ٢٠١٤، وإنما فى تأثير التنظيم على قطاعات واسعة من المواطنين فى هذه المدينة، البالغ عددهم قرابة ثلاثة ملايين نسمة، وتغيير أنماط تفكيرهم خلال هذه الفترة، بما يتوافق مع ثقافة الكراهية التى صدرتها «داعش» وغزت من خلالها المجتمعات التى خضعت لتأثيراتها، وهنا تبقى الأهمية لإعادة إعمار هذه المجتمعات بشكل كامل وإصلاح ما أفسدته الأفكار الرديئة والفاسدة خلال هذه الفترة الطويلة.
سقوط دولة الوهم والقهر والظلم والمسماة دولة الخلافة التابعة لـ«دعش» تبقى خطوة فى طريق المواجهة الطويل، والأهم فى التحرير على عتبة المدن المحررة، فالخطر ليس فى الإرهابيين الذين دخلوا المدينة الهادئة على حين غرة، وإنما فى الإرهاب كحالة تنتقل وتتكاثر مثل الخلايا الفاسدة فى جسد العالم دون مواجهة، وتبقى الأهمية ليست فى الإعلان عن تحرير كامل التراب العراقى أو حتى السورى وإنما فى إجراءات ما بعد التحرير، وهى تمثل أهم صور المواجهة الفاعلة التى تكفل القضاء على أفكار التنظيم والقضاء على جيوبه التى ما زالت تعبث هى الأخرى.
كيف يمكن صناعة النصر الحقيقى بعد تحرير الأرض؟ سؤال يبحث عن إجابة داخل المجتمع الدولى والإقليمى كما أنها تحتاج لمشاركة مجتمعية، ولا يمكن أن تتحمله القوات العراقية وحدها، المواجهة الفكرية لتنظيم «داعش» مسئولية المجتمع الدولى بأكمله وليس دولة بعينها تُعانى ترديًا أدى إلى وجود التنظيم على أراضيها، فخطر التنظيم ممتد ويمتد لأبعد ما هو عليه، بعد أن أعلنت «داعش» عن ولاية لها فى الصين، مما يدلل على تطاير أفكار التنظيم شرقًا وغربًا دون أن تجد من يقدر على تفكيكها من الناحية الفكرية قبل العسكرية.
التحدى الكبير أمام العالم ليس فى إعلان التحرر ولا الاحتفاء بهذا الإعلان، وإنما فى إعلان بيان يتضمن استراتيجية عامة لمواجهة جيوب التنظيم التى ما زالت موجودة فى نفس العواصم المحررة! وعواصم أوروبية أخرى، مع مواجهة حجم التأثيرات الفكرية التى وقعت بعض العواصم العربية فى شباكها، خشية أن تتوالد الأفكار ويعود المرض من جديد، ولكن بشراسة يصعب معها مواجهته.
وتبقى فكرة التنسيق المعلوماتى والمخابراتى أمرًا واجبًا على الدولة التى تحررت أراضيها، ولا تقل فى أهميته عن حملتها التى خاضتها ضد تنظيم «داعش» على أراضيها، والمشاركة فى القضاء على جيوب التنظيم خارج الحدود أمر لا يقل فى الأهمية من القضاء على التنظيم على أرضيها، فالتنظيم يهدد بخطورته على المجتمع الدولى والإنسانى، ومواجهته تحتاج إلى تجميع للقوى وتوزيع للأدوار، والأهم توافر الإرادة لذلك بعيدًا عن المصالح السياسية لبعض الدول.
تجديد الخطاب الثقافى صورة ما زالت غائبة عن فكرة مواجهة «داعش»، وما زالت المجتمعات العربية مقصرة فى طرح رؤى هذه المواجهة، وبالتالى لن نستطيع أن نقضى على الإرهاب دون مواجهة ثقافية وخطاب يتناسب مع الواقع ويعبر عن مضمون واقعى وحقيقى يناقض ثقافة الكراهية ويدحض رؤى التكفير ورفض الآخر التى اتشح بها العالم بعد ظهور هذا التنظيم.
«داعش» فكرة تعيش فى عقول أصحابها وتنتقل عبر فضاءات فوضى الأفكار التى أصبحت سمة مميزة للعالم، وهو ما يستتبع صورًا للمواجهة أكثر تأثيرًا من التى نعتمد عليها والبحث عن وجود بدائل لهذه الأفكار، فلا يمكن لنا أن ننتقد الأفكار المتطرفة دون أن نقدم رؤية لهذا الانتقاد، مكتفين بمجرد سبها ولعنها، فهذه الطريقة عديمة الفائدة والتأثير.
لا بد أن نكون مقنعين لغيرنا فى المواجهة، وأن نعطى المواجهة الفكرية أهميتها ولا ننشغل بغيرها، قد تكون المواجهة الأمنية والعسكرية البداية الحقيقية للمواجهة، ولكن لا يمكن اعتبار تحقيق النصر جراء هاتين الصورتين إلا إذا استتبعته صورة أخرى للمواجهة ممثلة فى المواجهة الفكرية بصورتها سالفة الذكر.
لا بد من اكتمال الصورة الخاصة باستراتيجية مواجهة التنظيمات التكفيرية المسلحة و«داعش» على وجه الخصوص من الناحية الفكرية، وأن تكتمل أركان هذا التصور والبدء فى خطوات هذه المواجهة بالتوازى مع ظهور المرض اللعين المسمى «داعش» حتى يمكن أن تظهر نتائجه فى أول انتصار عسكرى، وأن تكون المعركة القادمة الإجابة على السؤال، وماذا بعد «داعش»؟